يناقش ريتشي هيكر، رائد الأعمال والمستشار الإداري، في مقال رأيٍ بموقع كوين ديسك CoinDesk، مستقبل عملة الليبرا في 2020. وإليكم نص المقال:
كان 2019 عام بزوغ الليبرا Libra، وهي المحاولة التي تقودها شركة فيسبوك Facebook لخلق نوع جديد من العملات المُشفَّرة والأنظمة المصرفية. إذ كانت الليبرا الحدث الأبرز على روزنامة مجتمع العملات المُشفَّرة في 2019، لاحتمالياتها الواسعة وطموحاتها المهولة. لكنها، بشكلها الحالي، محكوم عليها بالفشل في ظني، مثل أغلبية عروض العملة الأولية التي سبقتها.
نعم، أنا مؤمن بالتأثير القوي لتكنولوجيا على الأفراد غير المتمتعين بخدمات بنكية، إذ أنَّها تمكنهم من توفير المال بيسر وبناء أهلية ائتمانية. لكن للأسف، ليست الليبرا في شكلها الحالي بالحل، لأنَّها تقدم مقاربة شديدة التعقيد، تجعل تنفيذها غاية في الصعوبة. لتتفهم موقفي هذا، دعني أعطيك نبذة عن خلفيتي العملية، أدرت سابقاً مجتمع يضم 100 مليون مستخدم، وقضيت سنوات عديدة في قطاع الخدمات المالية، عاملاً على الاستحواذات المصرفية.
تستطيع فيسبوك بناء شبكة مدفوعات عالمية، تُفيد المُستخدمين في كافة أرجاء العالم. فالشركة لديها بالفعل البنية التحتية الأساسية لإنشاء نظام مدفوعات ثوري، عندما تضع في الاعتبار المليارات من مُستخدمي شبكة تواصلها الاجتماعية وخبرتها الواسعة في أنظمة السعة. وإذا ما أضفت كل الشركاء المصطفين كمساهمين في الليبرا، ستجد أنَّهم يمثلون كامل طيف أنظمة المدفوعات والتجارة العالمية، وبالتالي فلابد أنَّها قادرة على النجاح.
هذه الفرصة متاحة حالياً لأنَّ النظام البنكي الحالي مُغلق على نفسه. فهناك قائمة طويلة من الرخص التنظيمية لابد من الحصول عليها لتستطيع الاحتفاظ بالمال، أو إرساله أو تخزينه. الهدف الأساسي وراء هذه الرقابة التنظيمية هو ضمان السلامة والأمن، ولحماية المواطنين من الاحتيال والتصدي لأنشطة غسيل الأموال. ولكن في الأغلب ما تقضي هذه القيود على المنافسة وترفع الأسعار، تاركة فسحة لتحسين النظام.
فكثيراً ما لا يتمكن العملاء من إرسال التحويلات المالية خلال العطل الأسبوعية، وأحياناً ما تحتاج البنوك لأيام عدة لمخالصة المدفوعات العابرة للحدود. ورغم أنَّ البنوك نفسها تعمل على تطوير منصات مدفوعات فورية تجارية، إلا أنَّها لم تصب الهدف بعد. فهناك شبكة زيل Zelle للمدفوعات الفورية من النظير إلى النظير، والتي تعمل بكفاءة في الواقع، لكن استخدامها مقتصر على البنوك. بينما تقدم شركة بايبال PayPal خدمة فينمو Venmo، والتي بإمكان الأفراد استخدامها. كما لدى البنوك أيضاُ شبكة حية للمدفوعات الفورية بين الشركات B2B RTP بفضل منظمة كليرينغ هاوس The Clearing House.
صحيح أنَّها جميها حديثة النشأة، ولكنها موجودة. إضافة لذلك، يعمل نظام الاحتياطي الفيدرالي على تطوير شبكة مدفوعات فورية خاصة به باسم فيد ناو FedNow، لمعالجة المدفوعات فوراً 24 ساعة يومياً، 7 أيام اسبوعياً، و365 يوماً سنوياً. سيخرج هذا كله إلى الوجود في نهاية المطاف. مما قد يجعل من الصعب على الشركات الناشئة المنافسة على المدى الطويل.
الليبرا.. مميزاتها وعيوبها
إذا ما هي الليبرا ولما مُقدَّر لها الفشل؟
الليبرا هي توكن مُمثِّل لسلة من الأصول، إضافة إلى نظام مدفوعات مُصمم لتسهيل إرسال الأموال لأي جهة بالعالم. فـ”الليبرا مهمتها توفير عملة عالمية بسيطة والبنية التحتية المالية اللازمة لتمكين المليارات من البشر”، حِسبَ ما جاء في نص الورقة البيضاء للمشروع.
بشكل ما تتشابه الليبرا مع فينمو، إذا ما أصبح لديه عملته الخاصة العاملة على نظام مدفوعات فوري جديد. على أنَّ يكون نظام المدفوعات هذا مفتوحاً 24 ساعة يومياً/ 7 أيام بالأسبوع، على النقيض من النظام البنكي الحالي، المفتوح جزئياً 24 ساعة يومياً/ 7 أيام بالأسبوع، لهؤلاء الواصلين لخدمات شبكة زيل وشبكة المدفوعات الفورية.
ستخلق الليبرا شبكة مدفوعات طيفية قائمة على العملات الموجودة بالفعل. على أنَّ تمثل تلك العملات الطيفية أصول تقليدية، مثل الدولار الأميركي، وتنتقل بين الحسابات لحظياً، ثم يمكن تسوية الأصول الفعلية في وقت لاحق.
وتزعم الليبرا أنَّها ستُدعم بسلة من الأصول، لكن ليس من الواضح كينونة تلك الأصول. في الأغلب ما سيؤدي انعدام الوضوح حول الأصول المشمولة إلى حرب بين السلطات التنظيمية المختلفة. فكل هيئة تنظيمية تمسها الليبرا ستبدأ في التحقيق فيها. إذ ليس من الواضح حتى الآن إذا ما كانت عملة، أم مشتق مالي، أم ورقة مالية أو مجمع لسلع أساسية وهكذا. ولهذا ليس من الواضح حتى الآن ما هي القواعد والقوانين التي تنطبق عليها. وغالباً ما ستختلف السلطات التنظيمية المتنوعة فيما بينها حول هذه النقطة، كما تختلف بالفعل حول تعريف العملات المُشفَّرة. فيمكن أن تتنازع الدولة القومية حول الجوانب المختلفة للعملات المُشفَّرة، إذ يبدو أنَّه ليست هناك اتفاقيات تجارة دولية تحكم ذلك النوع من الترتيبات المالية.
حتى بعد ما تحل الليبرا مشاكلها التنظيمية والقانونية، سيصعب عليها تحقيق الفوائد المرجوة لحالات الاستخدام المنصوصة. فهدف الليبرا الرسمي هو توفير خدمات مصرفية رقمية لـ1.7 مليار شخص لا يمتلكون حسابات بنكية تقليدية، وبالتالي تمكين الأشخاص في الأسواق المتقلبة من امتلاك أصل مستقر، وتقديم وسيلة رخيصة لتبادل الأموال عالمياً. ولكن من الصعب للغاية تحقيق هذه الأهداف.
إذ يتطلب توفير الخدمات المصرفية للأشخاص دون حسابات بنكية، حسب النظام المُقتَّرح لليبرا، إيلاء كامل العناية الواجبة والإلتزام بمتطلبات سياسة معرفة العملاء (KYC) لمكافحة نشاطات غسل الأمول، وقد يؤدي هذا إلى ألا يختلف التسجيل لحساب ليبرا كثيراً عن التعامل مع أي بنك تقليدي، مع تحديات مشابهة. فرغم اختلاف أطر العمل إلا أنَّ الإجراءات التنظيمية متشابهة.
من الجدير بالذكر أنَّ الجزء المُكلف من إنشاء مؤسسات صرف العملات هو ما يُعرف بـ”الشوط الأخير”، وهو ما لا تستطيع الليبرا قطعه دون بناء شبكة مباشرة خاصة بها أو تكوين شراكات مع شبكات التجزئة وماكينات الصرف الإلكتروني القائمة بالفعل. فنظام إم بيسا M-PESA، النظام الشرق إفريقي لتحويل الأمول باستخدام الهواتف المحمولة، والذي يُعدَّ أحد أفضل النظم الموجهة للأفراد دون حسابات بنكية، يتعاون مع شركة ويسترن يونيون Western Union وشبكات قائمة أُخرى لييسر على المُستخدمين إرسال واستقبال الأموال. يستخدم قرابة 28 مليون عميل خدمات نظام إم بيسا، ويُسهل قرابة 50% من إجمالي الناتج المحلي. كما يمكن لعملاء إم بيسا تحويل الأموال لأي شخص مقيم بأي من المئتي دولة حيثما تتواجد مكاتب ويسترن يونيون.
تستطيع الليبرا تكوين شراكات مماثلة لسحب النقدية، وتمكين التحويلات الرقمية والأهم فعل كل هذا بتكلفة أقل، ما أنَّ تدخل الساحة كمنافس. وإنَّ كانت محاكاة شبكات السحوبات المحلية في بعض البلدان قد تُمثل تحدياً. فشبكات خدمات المحمول هي حرس بوابات قطاع الأموال المتنقلة بالبلدان النامية. لذا سيصعب منافسة مقدمي خدمات المحمول، الذين لديهم بالفعل وجود قائم ويتمتعون بثقة المُستخدمين. إلا أنَّ ظهور عرض جديد قد يقود إلى حرب أسعار، وهو ما قد يكون في صالح العملاء أو يدفع بالليبرا إلى تحمل خسارة مؤقتة لدعم النمو على المدى الطويل. وذلك هو مكافئ خفض شركة ويسترن يونيون رسومها لرفع قيمة خدماتها.
وبما أنَّ التكلفة الحقيقية لإرسال المدفوعات وصرف العملة بالجملة منخفضة، فيمكن إتمام المدفوعات بتكلفة أقل. إذا ما استطاعت شركة فيسبوك خلق نظام إيكولوجي مُتسق داخلياً للمدفوعات والمُستهلكين، فستتكبد تكاليف أقل. وفي ظني فالفرصة الأكبر لمشروع الليبرا، بجانب تطوير محفظة، هي التعاون مع البائعين بالتجزئة، ضمن آخرين، لبيع المنتجات للمُستهلكين بناءاً على صافي قيمة أصولهم وسلوكهم الاستهلاكي. وذلك يمكن تحقيقه باستخدام العملة الداخلية للشبكة دون قلق على ارتداد عملائها لاستخدام الأموال النقدية مرة أخرى.
من الجدير بالذكر أنَّ معظم البلدان ذات العملات المتقلبة تضع ضوابط للعملة، وهي ما ستفرضه على عملة الليبرا على الأرجح، محولة إياها جوهرياً إلى غسيل أموال لخلق تحوط ضد التضخم. إذ يمكن للحكومة وضع حد أقصى جبري لقيمة عملات الليبرا المُمكن شرائها وتحويلها سنوياً، وبهذا يصبح تجاوز حد تحويل العملة المحلية إلى الليبرا جريمة. على سبيل المثال، يُمكن لكل مواطن صيني تحويل العملة المحلية حتى ما يوازي 50,000 دولار أميركي سنوياً فقط. ويمكن للحكومة الصينية تمرير قانون يضم أي أصول مالية أو عملات مُشفَّرة تحت نفس المظلة بسهولة.
وحتى إذا ما وجدت الليبرا طريقة لإطلاق وتحقيق أهدافها المنصوصة، ففي الأغلب ما ستقضي عليها عمليات الاحتيال. إذ ليس لدى مشروع الليبرا سياسة أو إجراءات واضحة للتصدي لعمليات الاحتيال أو آلية لحل منازعات الاحتيال. مما يجعلها جوهرياً المكافىء الحديث للغرب الأميركي المتوحش، مجانية للجميع. و من المحتمل أنَّ يدفع نقص ضوابط ردع الاحتيال إلى إنشاء شخص ما تطبيق مزيف لخداع المُستخدمين إلى إرسال عملات الليبرا الخاصة بهم له. ففي بعض الأحيان، يحتفظ الأشخاص المعتمدون على الخدمات المصرفية القائمة على الهواتف المحمولة في كينيا بكامل مدخراتهم مُخزَّنة على هواتفهم المحمولة، وبالتالي يصبحون عُرضة لعمليات احتيال للحصول على كلمات مرور هواتفهم روتينياً.
لدى الليبرا إمكانيات واعدة للغاية، لكن تواجهها تحديات جدية لابد من التغلب عليها. يمكن مواجهة العديد من تلك المشكلات بالتعلم من الأم الروحية لشبكات المدفوعات، شركة فيزا Visa. بدأت فيزا وجودها كبرنامج بنك أميركارد BankAmericard، وهو نظام ائتمان داخلي، كجزء من مؤسسة بنك أوف أميركا BofA. وهو ما تحول لاحقاً إلى نظام مُرَّخص ببنوك أُخرى، ثم رابطة مملوكة لأعضائها وأخيراً شركة عامة. سمحت هذه المقاربة المرحلية لها بالنمو بثبات وتفادي أعباء تنظيمية وسياسية غير ضرورية إلى أنَّ أصبحت مستعدة للهيمنة.
كيف يمكن لليبرا النجاح
باتباع خطى فيزا. والخطوة الأولى هي دعم الليبرا مبدئياً بالدولار الأميركي فقط أو عملة أُخرى واحدة فقط. سيُمكن هذا الليبرا من الإنطلاق ضمن الإطار التنظيمي المصرفي الأميركي الحالي. وإذا ما انطلقت الليبرا عبر النظام المصرفي الأميركي، ستُحترم في كل مكان آخر، باستثناء ربما الصين. وهناك بالفعل طرق واضحة لإطلاقها بهذه الصورة، مما سيجنبها وطأة الرقابة التنظيمية. أما بتضمينها لأصول أُخرى، تُورط الليبرا نفسها في حشد من النزاعات التنظيمية المُحتملة. فحتى إذا ما فازت في النهاية بموافقة الجهات التنظيمية المختلفة، ستكلفها تلك الموافقة الكثير من الأموال والوقت.
الخطوة الثانية إنشاء إدارة مركزية لوضع نظام للتصدي للاحتيال وهيئة واضحة يُمكن التواصل معها فيما يخص الرقابة التنظيمية. والنموذج المُقترح للليبرا هو مركزي بالأساس على كل حال، حيث ستدير قاعدة بيانات واحدة النظام بأكمله.
تمتلك فيسبوك شبكة عملاقة مما يجعل تطبيق نظام مدفوعات ذي رسوم منخفضة خطوة أولى هائلة. إذ يمكن للشركة دعوة آخرين للإنضمام إلى المنصة، وتحويلها إلى ائتلاف ما أن تُعالج أي أخطاء برمجية وتمر من التدقيق التنظيمي بنجاح. وفيسبوك لديها بالفعل البنية التحتية اللازمة لهذا في الواقع، أقصد بهذا المدفوعات من خلال تطبيق ماسنجر Messenger. فالتطبيق يحتوي على نظام مضاد للاحتيال بالفعل، ومرتبط بهويتك على شبكة التواصل الاجتماعي لفيسبوك.
الخطوة الثالثة تمكين فيسبوك للأفراد من بناء تطبيقات على نظام المدفوعات القائم بالفعل. ولن يتطلب هذا الكثير من المتطلبات التنظيمية الإضافية على الأرجح. إذ أتقنت فيسبوك فن تطوير التطبيقات قبل سنوات.
إذا ما طُبقت تلك الخطوات كما ينبغي، سيسهل على الليبرا الإنطلاق، كما ستتفادى تهديد الجهات التنظيمية بحظرها. سيكون تطبيق هذا باهظ الثمن، إذ سيتطلب تبني مركزية تامة تقريباً، وسيجعل من الليبرا امتداداً لإطار عمل فيسبوك القائم بالفعل. ولكن مقابل هذا سيكون خدمات مصرفية عالمية سريعة وعادلة للجميع.
يقول أحد أصدقائي، “احضر لي جزيرة صغيرة قبل أنَّ تعدني بالعالم”. يمكن لمقاربة مرحلية أبسط مساعدة الليبرا على النجاح وتحقيق وعودها.
مواضيع تهمك
هناك مواضيع أخري متعلقة