بمراقبة ما يجري على ساحة إثبات السعة لبعض الوقت، يمكن القول أن تلك الاستراتيجية التي تقلل الاعتماد على الثقة باستعمال الأقراص الصلبة مثيرة جداً للاهتمام من الناحية التكنولوجية.
فعن طريق استخدام المبادئ الأساسية للحوسبة، مما يجعل عملية تصنيع البلوكات أكثر توفيراً للطاقة من طريقة إثبات العمل، فإن هذه الطريقة تمكننا من إنشاء قواعد بيانات ذات قابلية عالية للتوسع والتي تقدر على العمل كوسيط لتبادل القيمة، وتخزين الثروة، وتأمين الممتلكات والاتفاقات، كما يمكن استخدامها كوحدة حسابية. تعتمد محفزات إثبات السعة على الإنفاق الرأسمالي على الأقراص الصلبة والوقت اللازم لتخطيطهم. هذا هو الفارق الأساسي بين إثبات السعة وإثبات العمل، إذ تكون التكاليف في حالة الأخيرة تشغيلية معظم الوقت. ويعد المورد الأساسي المستخدم، سعة الأقراص، متوافراً وفي حوزة المشاركين بالفعل. ونظراً للطبيعة اللامركزية لهذا النظام، فإن تكلفة الهجوم على الشبكة بشكل مادي باهظة بشكل يستحيل معه تنفيذ هجوم من ذلك النوع.
ومن المثير للاهتمام كيف فشلت تلك الشبكات الأنيقة والكفؤة، والمبنية على مثل ذلك الإجماع، في الاستثئار بحماس الرأي العام أو إحداث تأثير على مستوى الشبكة.
فحتّى أكبر المناصرين للعملات المشفرة، بجانب من يسموا أنفسهم بالمخترقين، لا يعرفون شيئاً عن تلك التكنولوجيا. إذن ما الذي يحدث؟ أهو الحظ السئ، أم الهجمات الاجتماعية، أم المشكلات الجوهرية في الإجماع، أم أمر آخر؟
تبقى الحقيقة الأكيدة: يكشف التاريخ عن الكثير. وعصر ما بعد الحقيقة، وهو المصطلح الذي يشير إلى تقهقر الحقائق الموضوعية لصالح المعتقدات الشخصية والمشاعر، هو ما يمنع، حتّى الآن، إثبات السعة من الانطلاق.
“إذا ما أخذت في تكرار كذبة لوقت كافي، سيصدقها الناس، وستصدقها أنت أيضاً”.
تكمن المفارقة في العبارة السابقة في أنها نسبت إلى جوزيف غوبلز في كتاب “منشورات متعلقة بأشكال مختلفة من الشيوعية“، والمنشور في عام 1946، من قبل مجلس النواب الأميركي. ومع ذلك، فلا وجود لأي مصدر يؤكد على صحة ذلك النسب. دائماً ما تنسب تلك العبارة إليه، وبذلك، ومع تكرار الأمر، أصبحت تلك العبارة منسوبة إليه بالفعل. هناك العديد من الحالات في تاريخ شبكات إثبات السعة
كانت بيرست (BURST) أول عملة مشفرة تنفذ عقداً ذكياً اجتاز اختبار تورينغ في بيئة حية وفي صورة التعاملات المتأمتة في عام 2014، برغم أن القنوات الإعلامية تفضل أن تشير إلى الإيثريوم (ETH) بدلاً منها. أطلقت بيرست بشكل متواضع عن طريق مطور مجهول واختفى بعد عام واحد بعدما ترك البروتوكول في يد “مجتمع العملات المشفرة”.
ما حدث بعد ذلك لبيرست يدعو للخزي، إذ استولى مجموعة من المحتالين والمجرمين والمعلنين على البروتوكول ودمروا سمعة العديد من الأشخاص وسرقة المال مما نفر الناس من الموضوع. استغل هؤلاء الأشخاص تردي حالة جدول توزيع المكافآت غير العادلة نسبياً، وهي جزء من ميراث أصله العائد إلى NXT، وانتهى بهم الأمر إلى توليد الملايين من عملات بيرست في وقت كانت فيه الشبكة في طور الطفولة. وعندما تركت تلك المجموعة القميئة الشبكة وتولى أمرها مجموعة من المطورين ذوي الخبرة والممولين ذاتياً بغرض جعل بيرست عملة مشفرة محترمة، وهو ما لم يحدث قبل شهر أغسطس/آب من عام 2017، كانت 85% من عملات بيرست عدنت بالفعل وقيد التداول، وفي أيدي أشخاص يرغبون في التخلص منها في الوقت المناسب. لم تكن مهمة هؤلاء المطورين سهلة، ولم يكن العائد في مقابل المخاطرة الخاص باستخدام عملة مشفرة مركزية لهذا الشكل مجدياً، بالإضافة إلى الإنفاق على تطوير البنية التحتية وتطوير البرامج بالمجان. إلا أنهم قرروا بذل ذلك المجهود على أي حال.
وبالرجوع للوراء، فمن الواضح أن جمعية إثبات السعة وضعت خطة توسعة قوية على البلوكتشين الخاص ببيرست، ولم يكفي احتواء ضغط الحيتان القديمة الهائل للبيع، والذين كانوا في معظمهم معدنين ومحتالين، في حوزتهم معظم العملات الخاصة بالشبكة، واحتواء سوق الدببة الذي بدأ بعد شهر يناير/كانون الثاني من عام 2018 واستمر حتى قررت جمعية إثبات السعة قيادة تطوير محفظة بيرست. وانخفضت قيمة شبكة بيرست أمام أسواق البتكوين الأكثير سيولة، والإيثريوم، والدولار الأميركي، ولا زالت قيمة الشبكة آخذة في الانخفاض إلى يومنا هذا.
إلا أن ذلك بالطبع، سواء فيما يتعلق بجميعة إثبات السعة أو فريق تطوير التطبيقات على بيرست، وهو الفريق القائم على التطوير الأساسي للمحفظة، لا يعني وجود علاقة سببية بينهم وبين انخفاض قيمة الشبكة، فوجود علاقة لا يعني السببية، فما نحن بصدده ليس أكثر من حالة من حالات الارتباط الوهمي. هل تتسبب أفلام نيكولاس كيدج في غرق الناس؟ هل يمكن لوم الدنمارك على توقف السريان المدفوع بالتباين الحراري بالنظر لأن غرينلايند تحت إدارتها؟ تلك بالطبع حالات للارتباط الوهمي، وهو ما ينطبق على حالة المطورين، إذ لا يسعهم التحكم في تلك الظروف الخارجية.
إلا أن سوق الدببة الوحشي لم يكن كافياً لإشاعة جو من عدم الثقة والاضطراب في أوساط عالم إثبات السعة. فالخطة الطموحة لبيرست لم تجعل أي من المطورين أثرياء، وكان من الأفضل لهم العمل على شبكة أخرى جديدة كلياً، بدلاً من إضاعتهم لوقتهم وتعرضهم للسخرية والنقد من قبل المعدنين ومشغلي الأحواض، والذي يشكلون الأغلبية العظمى من المجتمع ولهم تأثير طفيف على الشبكة. ويمكن أن يشكل ذلك مشكلة لأي مجموعة تقوم على تطوير عملة. وكان شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2018 هو نقطة التحول التي جعلت ذلك جلياً.
ارتفعت صعوبة شبكة بيرست بنسبة 1600%، أو ما يقدر بـ17 مرة بعدما تولت جمعية إثبات السعة مهمة تطوير الشبكة واجتذبت دماء جديدة حول البروتوكول. إلا أن ما يدعو للأسى أن بيرست لم تنجح إلا في أن تجتذب المزيد من المعدنين بدلاً من الشركات والأنشطة الاقتصادية. ويمكننا تفهم تلك المعاناة، بالنظر لسمعة العملة السيئة والتي استمرت لوقت طويل بعدما ترك المحتالون الشبكة. وبتقلص حجم المكافآت على البوكات بسرعة وبضرب سوق الدببة للحجم السوق لبيرست، فلم يعد أحد يستفيد من التعدين على الشبكة، ولا حتى المشغلين كبار الحجم. الأمر الذي دعى مجموعة ضخمة لتعدين البيرست، ومقرها الصين، إلى برمجة هارد فورك للبتكوين وقيادة إجماع إثبات العمل 2 المستخدم بواسطة بيرست ومزجه بنظام محاصصة هو الأول من نوعه في عالم إثبات السعة. عملة “مستنسخة” لا غرض من وراءها إلا التعدين والمضاربة، مليئة بالثغرات الأمنية، ومشاكل المركزية وحجم تدفق ثابت من العملات المعدنة يذهب مباشرة إلى محفظة جمعية مثيرة للريبة، مسخ يسمى بتكوين إتش دي (BHD). كان المسمار الأخير في ذلك النعش هو الطبيعة المغلقة للمحفظة، بالإضافة إلى أن التعدين يتطلب منك أن تعطي كلمة مرورك إلى الحوض. ذلك كله بدون النظر إلى المفارقة المتمثلة في وضع ثقتك في مؤسسات داخل ما يفترض أن يكون نظاماً قائماً على تقليل الاعتماد على الثقة.
بالإضافة إلى الأمر التالي: في حالة إثبات السعة، يمكنك تعدين عدة عملات باستخدام نفس صيغة التخطيط، وفي نفس الوقت، في عملية تسمى بالتعدين غير-المتصادم. سمح مطوري بتكوين إتش دي، نتيجة لغبائهم، لتلك الثغرة الأمنية بالظهور. فلا يسعنا إلا تخيل لو كانت اللايتكوين (LTC) قد أطلقت باستخدام دالة الهاش SHA256 كخوارزمية تهشير.. فحتّى في هذه الحالة، لم يكن للأمر أن يكون بمثل هذا السوء. لأن عملة البتكوين إتش دي خلقت وضعاً لم يعد فيه شئ على المحك بالنسبة لمعدني بيرست، والذين وجدوا فجأة أن بإمكانهم التعدين على بلوكتشين جديدة دون أن يؤثر ذلك على ربحهم. وفي مثل تلك الحالات، لا يمكن إنقاذ الكثير من الناس، ويلتهم الطمع مخ الإنسان. وتصبح الأمور غريبة. وأصبح المعدنون والمشغلون عدائيين ضد المطورين الراغبين في حماية بيرست بوصفها العملة المشفرة الرئيسية القائمة على إثبات السعة في فضاء العملات المشفرة، لأن مجهوداتهم تلك تداخلت مع أرباحهم من تعدين البتكوين إتش دي. وتوالت الانتقادات، فإدعى البعض أن البتكوين إتش دي تتم مهاجماتها وأن المطورين يسرقون مجهودات المعدنين. ولجأ بعض المعدنين، وكانوا، للمفارقة، من كبار المستفيدين من خدعة البتكوين إتش دي، إلى تشويه سمعة المطورين عن طريق إخبار المعدنين بترك أحواضهم. وعند تلك النقطة، لم يكن بوسع المطورين إلا الاستقالة والتفرغ لأعمال أخرى.
تكمن المشكلة في سلسلة الأحداث المؤسفة تلك، أنها جعلت من الواضح إن إطلاق عملة مشفرة مستنسخة قائمة على إثبات السعة طريقة سهلة ومضمونة لجني المال، بالإضافة إلى أن المعدنين سيضمنوا تقليل المشاكل الأخلاقية المتعلقة بالمشاركة في مخططك. إلى هذا اليوم، يظهر المزيد من نسخ بيرست إلى الوجود لمجرد التواجد. وجرى اعتبار البعض منها مجرد احتيال، إلا أن ذلك لم يوقفهم عن الظهور مجدداً في نفس المكان. إذ يبدو أن الناس قد وجدوا طريقاً سريعاً للثراء على حساب الجميع. اللامساواة بنقرة من الفأرة! جرّب ذلك بنفسك!
إذن، كيف يمكن لإثبات السعة أن يزدهر وأن يعمل لصالح الجميع، عندما يصر الجميع على تجاهل الهدف الأكبر؟ ما الذي يمكن فعله عندما تتنكر عمليات الاحتيال في صورة أوراق مالية، ويصدق الكثير من المشاركين أنهم ليسوا عبئاً على الشبكة؟ كيف يمكن للناس الانتفاع من الشبكة المبنية على إثبات السعة وكيف يمكن لشبكة إثبات السعة التصرف كأداة مالية وبنك لغير الراغبين في الخدمات البنكية عندما تميل الحوافز ناحية استغلال السلاسل المتعددة والتعدين عن طريق إصدار شبكات جديدة وليس توحيد الجهود، والتوسع احتماعياً والبناء على البروتوكول؟ إلى هذا اليوم، ومن بين كل البلوكتشينات القائمة على إثبات السعة، لا تزال بيرست جاذبة للموهوبين والمهتمين بخلق اقتصاد حقيقي مدعوم بعملة أصلية نابعة من قلب ذلك النظام الاقتصادي. إلا أن مجتمع بيرست يقع تحت حالة شد وجذب دائم بين المشاركين فيه، نظراً لأن بعض مديري هذا المجتمع، وهم، للصدفة، معدنين، يروجون بشكل علني لعملات مثل بووم (BOOM) وبتكوين إتش دي.
أعلنت جمعية إثبات السعة أنها بصدد العمل في بلوكتشين قائم على إثبات السعة جديد كلياً. ويبدو أنهم عازمون على إتخاذ قرارت جريئة عن طريق تصميم كل شئ من البداية، بدءاً من المجتمع نفسه. لا تزال الكثير من النقاط محل نقاش محتدم وعرضة للمراجعة. يتمثل الهدف في تقديم شئ جديد بالكلية وتقليل الاعتماد على الثقة وتقليل اللامساواة، بالإضافة إلى تنفيذ كل ما كان مخططاً لتنفيذه في حالة بيرست. يجري تأسيس صيغ تخطيط جديدة مثل إثبات السعة 3، وطبقة دايماكسيون Dymaxion، إلخ.. وسيجري اسكتشاف الفكرة التي قامت عليها بتكوين إتش دي والمتعلقة بإعطاء حصة للمعدنين عن طريق ميكانيزم المحاصصة. ومن أجل إعطاء كل ذي حق حقه، فإن أفضل ما فعلته البتكوين إتش دي هو التنفيذ السئ لفكرة جيدة، الأمر الذي أعطى جمعية إثبات السعة الفرصة لتطويرها وتحسينها بالشكل الملائم.
وفي الوقت الحالي، سيبقى المتسكعون في فضاء إثبات السعة، آملين في أن تزدهر في خلال السنوات القليلة القادمة وأن تنجح في توزيع الثروة بشكل عادل على جميع البشر.
مواضيع تهمك
هناك مواضيع أخري متعلقة