باتريك تان هو المدير التنفيذي لشركة Novum Global Technologies المتخصصة في التجارة الكمية للعملات المشفرة بحجم تعاملات يومية تصل إلى 100,000 عملية.
أعاد تيموثي سبنسر (ستيلبت) شحن الرشاش الآلي من طراز M-16 وقطرات العرق على جبهته، قبل أن يطلب من أحد زملائه تغطيته من القناص المتمركز على سطح المبنى المقابل له على بعد 200 قدم.
وجاءت الرسالة من جهاز اللاسلكي:
“القناص على بعد 200 قدم في المبنى البني، الدور الثاني. هل تستطيع رؤيته؟”
“نعم يمكنني رؤيته. ألق قنبلة دخانية”.
لم يستغرق الأمر دقائق قبل أن يسمع الجميع الصوت الذي لا يمكن أن تخطؤه أذن للقنبلة الدخانية، قبل أن تغطي السحابة الدخانية المسافة بين موقع ستيلبيت وبين المبنى الذي يقبع بداخله القناص.
“غط ضهري، سأقتحم المبنى”.
وانطلقت الرصاصات كزخات المطر من قبل زملاء ستيلبيت لتغطية تحركه. وبدخول ستيلبيت للمبنى فوجئ ستيلبيت بانفجار لغم كلايمور تسبب في عمى مؤقت مع تناثر آلاف الكريات المعدنية الموجودة داخل اللغم.
ومع اختراق االكريات المعدنية للبزة الواقية الخاصة به، شعر ستبيلبيت بجسده وكأنه يتمزق وانهار على الأرض.
“اللعنة! لغم مفخخ!”
وخلع سبنسر سماعاته في سخط.
“سأخرج من اللعبة الآن. أمي تطلب حضوري”.
وضع سبنسر أداة تحكمه اللاسلكية وترك لعبة فورتنايت Fortnite، وهي اللعبة ذات الشعبية الطاغية التي سيطرت على عقول وقلوب المستخدمين حول العالم.
“تيمي، لقد ناديتك أكثر من مرة ولم تستجب لي”.
“كنت جالساً إلى الحاسب يا أمي”.
“إنها تلك الألعاب. جلوسك أنت وأصدقاءك خلف الشاشة طوال الوقت. لم لا تلعب في الخارج؟ متى كانت آخر مرة استضفت فيها صديقك جوش في المنزل؟”
“أنا أقابله طول الوقت يا أمي”.
“تقصد أنك تقابله على الإنترنت”.
“إنه الأمر نفسه تقريباً”.
“ليسا الأمر نفسه. أنت تعلم إتفاقنا: يمكنك لعب تلك الألعاب مادامت درجاتك المدرسية مرتفعة، ولكني لا أعلم السبب وراء تضييعك لوقتك في لعبهم. إجادتك لتلك الألعاب لن يفيدك إطلاقاً”.
“ولكن..”
“لن أقبل أي استثناءات. إخرج إلى الرصيف وانتظر مجئ أختك من المدرسة”.
“ولكن كيف سيتسنى لي فعل ذلك؟ أنا في خضم اللعبة”.”
وبنظرة واحدة من أمه، ارتعد سبنسر. وبعد بضعة دقائق، كان سبنسر واقفاً على الرصيف في انتظار أخته، متمنياً أن يعود إلى عالم فورتنايت.
اتصلت والدة سبنسر بأختها لتشتكي لها من أن ابنها يقضي معظم وقته أمام شاشة الحاسب في لعب تلك الألعاب وأنها قلقة من أنه لن ينجح في حياته.
كان ذلك منذ ما يزيد على العام، قبل أن ينجح سبنسر في الفوز بمليون ونصف دولار أميركي في كأس عالم لعبة فورتنايت في ولاية نيو يورك، واستخدم هذا المال لدفع الرهن العقاري على منزل والديه قبل أن يصحب العائلة في رحلة أحلامهم إلى عالم ديزني في أورلاندو.
فمن الصعب وضع معنى ثابت النجاح لاختلاف القيم التي يستخدمها كل جيل لتقييم النجاح، إذ رأى تيموثي سبنسر، ذا الـ14 عاماً قيمة في لعبة فورتنايت، ووافقه الملايين حول العالم.
القيمة في حد ذاتها ليست ذاتية، إلا أن الاختلاف حول تعريفها بين جيل وآخر واختلاف الظروف المالية هو المسبب للاختلاف حول تقدير القيم والأصول أيضاً.
الأوقات المختلفة تتطلب تفكيراً مختلفاً
ما سبق ذكره هو الذي يجعل المرحلة الحالية من تاريخ الاقتصاد صعبة الفهم.
فبادئاً ذي بدء، يجب علينا فهم سبب الانخفاض الشديد لأسعار الفائدة الأميركية وعوائد السندات حتى بعد مرور عقد كامل على نهاية الازمة المالية.
يبشرنا الخبراء، عاماً بعد عام، أن سعر الفائدة سيرتفع حتماً وان المستثمرين يجب عليهم أن يستعدوا لحدوث ذلك.
وفي عام 2018، وضع جايمي دايمون الأميركيين على أهبة الاستعداد بخصوص الارتفاع الوشيك لأسعار الفائدة. واشتهر دايمون، وهو المدير التنفيذي لبنك جي بي مورغان تشايس، بنقده العنيف للبتكوين، قبل أن يطلق العملة المشفرة الخاصة ببنكه.
وبحسب دايمون، فإن المستثمرين سيشهدون ارتفاعاً ملحوظاً لمعدلات الفائدة، وهو العائد على سندات الخزانة المستحقة بعد عشر سنوات، لترتفع فوق 5%. تبلغ نسبة الفائدة حالياً ما يزيد عن 2% بقليل، مع وجود مؤشرات لانخفاضها إلى مستوى 1%.
وتعتبر معدلات فائدة الرهون العقارية التي يبلغ مداها 30 عاماً نسبة بسيطة من المتوسطات ذات العمر الطويل، وتدفع الشركات معدلات فائدة تقترب من الصفر مقابل الاقتراض.
وبينما يساعد ذلك المال الرخيص الاقتصاد على النمو، فإن المودعين لدى البنك لا ينالهم إلا نذر يسير من ذلك النمو، إذ يحصل المودعين على نسبة فائدة أقل من 1% على إيداعاتهم.
ويبدو أن انتظار ارتفاع معدلات الفائدة شبيه بانتظار حافلة في مدينة مزدحمة؛ ستأتي الحافلة في نهاية المطاف، إلا أن ذلك لن يحدث في الوقت وبالشكل الذي نتوقعه.
سقوط كل الرهانات
ومع تحول معدلات الفائدة المنخفضة لأمر طبيعي، فإن الافتراضات الكلاسيكية عن النقود لم تعد صالحة للتطبيق.
وبرغم محاولات بنك الاحتياط الفيدرالي لدفع البلاد لرفع معدلات الفائدة، برفعه لمعدلات الفائدة لتسعة مرات مننذ 2015 (في الوقت الذي كانت معدلات الفائدة فيه تقترب من صفر بالمائة)، فإن الرياح غير المواتية تدفع بنك الاحتياط الفيدرالي إلى عكس تلك الإجراءات.
ولا يبدو أن ما تخبرنا به كتب التاريخ يتكرر في حالتنا، ففي هذه المرة، الأمور حقاً مختلفة.
وفي حديث له مع بلومبيرغ Bloomberg، قال ديفيد كيلي، كبير الاستراتيجيين العالميين لدى جي بي مورغان لإدارة الأصول، والمشرفة على أصول تقدر بـ1.8 تريليون دولار: “نحن بصدد الوضع الشاذ الجديد.. عندما تكون في هذه المرحلة من التوسع، فعادة ما نكون بصدد التعامل مع مشكلة ارتفاع مستوى التضخم، ويشدد بنك الاحتياط الفيدرالي من إجراءاته من أجل كبح جماح الاندفاع الاقتصادي ومن أجل منع الشركات التي لن تستطيع سداد ما ستقترضه. كل ذلك غير صحيح في الوقت الحالي”.
ويكمن السبب وراء عدم تحقق أي من الافتراضات التقليدية أن العالم مختلف بشكل كبير عمّا كان عليه منذ نصف قرن مضى.
اختلاف الأزمنة
مبدئياً، فإن العالم مرتبط ببعضه بدرجة أكبر بكثير على الصعيد الاقتصادي.
وساعدت العولمة، بالإضافة للأتمتة، على ضمان أن تظل الاجور منخفضة من خلال السماح للشركات بنقل مصانعها إلى البلاد التي تمتاز بانخفاض أجور العمالة وانخفاض تكاليف المعيشة.
كما أن التصنيع أصبح يعتمد على الأتمتة بدرجة أكبر، مما ساعد على انخفاض التكاليف والأسعار، لذا فإن التضخم لم يعد يشكل عائقاً.
بعيد الأزمة الاقتصادية العالمية، في عام 2009، توقعت شركة بيمكو PIMCO، وهي أحد أكبر شركات تجارة السندات في العالم، انخفاض العائدات على السندات طويلة الأجل. كما توقعت بيمكو تباطئ النمو الاقتصادي واندماج الابتكارات التكنولوجية بالإضافة إلى سهولة الوصول إلى العمالة ذات الأجور المنخفضة مما سيساعد على تخفيف الضغط التضخمي، في الوقت الذي تتمتع فيه البلاد الغنية بتكدس المدخرات بسبب ارتفاع نسبة المسنين في تلك البلاد.
ومع استمرار عدد من تلك المشاكل، فقد أشار مدير الاستثمار في مجموعة بيمكو، دان أيفاسن في معرض حديثه مع بلومبيرغ إلى أن: “العقبة الجديدة هي القلق بشأن التجارة العالمية واتجاه بعض الدولة إلى العزلة عن العالم الخارجي، مما سيقلل من العائدات بدون شك”.
وبالطبع، فإذا تجمد حجم التجارة العالمية، فإن العقبات التجارية ستنشأ من خلال سلسلة من الإجراءات التجارية الانتقامية، مما سيؤدي لانحراف قطار العولمة عن مساره. وعلى المدى المتوسط على الأقل، فسيعود التضخم للعب دوره التقليدي، أما على المدى القصير، فهناك احتمالية ضئيلة لحدوث ذلك.
تحركات رأس المال الخطر
ومع تيقن المستثمرين من أن انخفاض بقدر 0.25% على وشك الحدوث، بناءاً على الأسعار في الأسواق المستقبلية، فإن كافة أنواع المقترضين سينتفعون من ذلك المال السهل، مع احتفاظ العديد من البلاد والشركات بمعدل فائدة منخفض لمدة تصل إلى قرن كامل.
وقامت كل من بلجيكا وأيرلندا ببيع سندات تستحق بعد 100 عام، وتبعتهم النمسا في ذلك، بنسبة عائد تصل إلى 1.17%. وقبل أربعة أعوام، باعت شركة مايكروسوفت سندات تستحق بعد 40 عام، وقامت جامعة كاليفورنيا بإصدار دين يستحق بعد 100 عام.
وبينما يبدو الدين طويل الأجل فكرة جيدة للمقترضين لكي يحافظوا على معدل الفائدة المنخفض، فإنه يمثل تحدياً متزايداً للبنوك نظراً لميلهم إلى تمويل الاستثمارات طويل الأجل بقروض قصيرة الأجل.
إذ تحقق البنوك أرباحاً عندما تكون نسب الفائدة طويلة المدى مرتفعة مقارنة بالمدى القصير. إلا أنه نظراً لأن معدلات الفائدة المنخفضة ستتسبب في انخفاض عوائد البنوك من الإقراض، فإن البنوك والمقرضين عادةً ما يلجأون إلى البحث عن مصادر ربح أخرى.
ولمدة تصل إلى عقد قريب، رضي المودعون بحقيقة أن أموالهم لدى البنوك تظل قيمتها ثابتة كما لو كانوا يحتفظون بها في منازلهم.
ففي الولايات المتحدة، حصل أصحاب حسابات الإدخار على نسبة 0.1% على إيداعاتهم، وهي النسبة التي انخفضت من 0.3% في عام 2009 بعيد الأزمة المالية العالمية. وعلى النقيض، قبل عقد من عام 2009، تلقى المودعون زيادة تقدر بنسبة 1.73% على إيداعاتهم.
كما أن المؤسسات التي تدير حسابات الإدخار بالنيابة عن الآخرين، مثل صناديق المعاشات التي تدير تريليونات الدولار نيابة عن المتقاعدين، قد خفضّت نسب الفائدة.
فمع سندات الخزانة المستحقة بعد 30 عاماً، وهي ورقة الدين المفضلة لدى صناديق المعاشات، لها معدل فائدة يقدر بنسبة 2.5%، بالمقارنة بنسبة 6.5% في السبعينات من القرن العشرين، فإن بعض صناديق المعاشات قد أشارت إلى أن عائداتها ستنخفض بنسبة 1% في خلال العقد المقبل.
وفي شهر يونيو/حزيران الماضي، قال بين مينغ، كبير مديري الاستثمار في هيئة كاليفورنيا لإدارة تقاعد الموظفين العموميين، أن العائد المتوقع على محفظة المعاشات التي يديرها في خلال العقد المقبل سيكون 6.1%، في انخفاض عن النسبة المتسهدفة وهي 7%.
ولا يكمن السبب في أن الأسهم لم ترتفع. فبعد الأزمة المالية، خفضت الكثير من صناديق المعاشات النسبة المخصصة برأس المال الخطر مثل الأسهم، فبمجرد دخولك لسوق الأسهم فأنت أكثر عرضة للتقلبات السعرية الحادة، وهو ما يعد مخاطرة كبيرة بمحافظ المعاشات التي يديرونها.
إلا أن الأثر الحقيقي لانخفاض معدلات الفائدة يبدأ في الظهور لا عند العائدات الحالية، وإنما في حالة العائدات المستقبلية والتي يتوقعها المستثمرون. إذ تؤسس معدلات الفائدة أرضية لتوقع العائدات على كل الأصول لأنها تعكس الحد الأدنى المطلق لمعدل العائد الخالي من المخاطر.
وبانخفاض تلك المعدلات، فإن قيمة كل من السندات والأسهم تزداد، إلا إنه مع وصول معدلات الفائدة حول الصفر، والأكثر أهمية: استقرارها حول تلك النسبة لوقت مطول، فإن ذلك لا يترك مجالاً لارتفاع أسعار الأسهم والسندات.
إذ لا يمكن لمعدلات الفائدة المنخفضة أن ترفع أسعار السندات والأسهم إلا لوقت محدد، وعند مرحلة معينة، تتجه تلك السيولة الزائدة لأماكن أخرى.
وبحسب المقولة الألمانية: “لا تنمو الأشجار حتى تصل إلى السماء”.
يعني كل ذلك أن المستثمرين قد احتاجوا إلى البحث في كل مكان بحثاً عن العائد، حتى لو اضطروا في سبيل ذلك إلى تحمل مخاطر أعلى.
وفي خضم البيئة المتسمة بانخفاض معدل الفائدة، قاد ذلك البعض منهم إلى شراء السيارات القيمة، اللوحات الفنية، والأحذية الرياضية، وبالطبع: العملات المشفرة.
وقالت آن والش، كبيرة مديري استثمار الدخل الثابت في شركة غوغنهايم وشركاه لبلومبيرغ:
“يهرول المستثمرون المؤسسيين هنا وهناك بحثاً عن العوائد. وينطبق ذلك بدرجة أكبر على المؤسسات الكبيرة، مثل البنوك وشركات التأمين وصناديق المعاشات”.
ولا يعد التحول نحو رأس المال المتسم بالمخاطرة المرتفعة غريباً على الولايات المتحدة فحسب.
ففي اليابان، المشهورة بانفتاحها الشديد على العملات المشفرة، استثمر بنك نورينشوكين، وهو المؤسسة التعاونية التي تدير إيداعات ملايين المزراعين والصيادين اليابانيين، 69 مليار دولار أميركي في قروض بضمان أوراق مالية، وهي قروض للولايات المتحدة وشركات أوروبية لها تاريخ اقتراض سئ. تلك، بالطبع، كانت مقادير الأزمة المالية السابقة.
كما خلقت نسب الفائدة المنخفضة فائزين وخاسرين جدد في وال ستريت.
فانخفاض التكاليف التمويلية وارتفاع قيمة الأصول شكلا ميزة لشركات الأسهم الخاصة، إلا أن صناديق الاستثمار، والتي تزدهر في أوقات التقلبات الاقتصادية، عانت بسبب أن الارتفاع المرتقب لنسب الفائدة لم يأت قط.
ونتيجة ذلك، فإن المتشكيين ورافضي العملات المشفرة قد تسربوا تدريجياً إلى فضاء العملات المشفرة، قادمين من عالم الأموال. وبالطبع، فإن كثيراً منهم يتوقعون انهيار صناعة صناديق الاستثمار ويرغبون في إقامة سوق جديد لتجارة العملات المشفرة.
بينما انسجم البعض الآخر مع كون العملات المشفرة أصل جديد تماماً وحاولوا الحصول على الميزة الناجمة من كونهم من أوائل المستثمرين فيها.
وبالمقارنة بالعقد الماضي، فإن كل مديري التخصيصات على علم ومعرفة بالبتكوين (BTC) وأشباهها.
ويعد فهمنا للأصول التي يمكن الاستثمار فيها متغير باستمرار ويتطور بمرور الوقت.
إذ أظهر لنا التاريخ أن الأثر الرجعي هو الضمانة الوحيدة للتعرف على المناطق التي يمكن الاستثمار فيها وما الصناعات التي ستندثر.
وبرغم صعوبة استيعاب كيف يمكن للعب فورتنايت أن يجعل من الشخص مليونيراً بين ليلة وضحاها، فمن الصعب كذلك على الكثيرين تفهم أن العملات المشفرة هي أصل يمكن الاستثمار فيه.
إلا أن السير آرثر كونان دويل قد عبر عن ذلك ببراعة حين قال:
“إذا استبعدت كل المستحيلات، فإن ما سيتبقى هو الحقيقة مهما بلغت غرابتها”.
مواضيع تهمك
هناك مواضيع أخري متعلقة