هذه المعلومات سوف تُذكر في الكتب المدرسية في غضون قرون قليلة من الزمن
أغلب الناس في يومنا هذا يظلون عالقين بالتحديق في سعر البتكوين (BTC)؛ كل ما يهمهم هو كسب المال، ولا بأس بذلك. كل ما يتطلبه الأمر هو قليل جداً من الجهد الإضافي، بمشاهدة بعض مقاطع الفيديو أو قراءة مدونة مفيدة، لفهم الإمكانيات التي ينطوي عليها البتكوين. الأمر ليس شديد الصعوبة، ولا داعي لأن يكون تقنياً للغاية؛ فبإمكان الجميع أن يفهموا حين نستخدم الاستعارات المناسبة ونبسّط الشرح.
لنلقِ نظرة على كيفية نشأة البتكوين، حتى نلم إلماماً أفضل بما سوف تحققه لنا النقود الرقمية.
في حال كنت مستجداً بالبتكوين، هذا المقال بداية جيدة لك.
التغيير قد حدث بالفعل
تحمل تقنيات البتكوين والعملات المشفَّرة والبلوكتشين هدية رائعة للبشرية. إنَّني لا أكتفي من الكتابة والحديث والقراءة عنها؛ إذ إنَّني أشعر وكأنَّنا قد عدنا إلى تلك الأيام حين كانت شبكة الإنترنت قد اُبتكرت للتو. وفي الحقيقة، الأمر سيان تقريباً: مع أنَّني لست خبيراً تقنياً إطلاقاً، أستطيع أن أشعر أنَّ التقنية تمهد السبيل لشيء عظيم وتطوري ومفيد سوف يحدث، وهذا لن يحدث دون “إحلال” للنظام المالي القديم؛ ولكنَّ هذا كله جزء من مجريات الأمور.
لا تخش التغيير، ربما تخسر شيئاً جيداً، وقد تكسب شيئاً عظيماً أيضاً.
لقد كان نظامنا المالي القديم مفيداً للأشخاص الذين كانوا محظوظين بما يكفي لأن يكونوا من المتعاملين مع البنوك. أمَّا البتكوين، فسوف يكون مفيداً للغاية لنا جميعاً تقريباً، بما في ذلك الـ2 مليار شخص غير المتعاملين مع البنوك في العالم. ولكن هناك المزيد، والمزيد…
من الجيوش البيزنطية إلى البلوكتشين
إنَّ البتكوين، بل وأكاد أقول ثقة البشرية جمعاء، تأتي من مجموعة من علماء الرياضيات حلوا بعض الألغاز بالغة الأهمية، أبرزهما مسألتان هما: معضلة الجنرال البيزنطي، ومعضلة الإنفاق المزدوج.
والآن، تخيل الآتي…
قديماً في العصور البيزنطية، كانت هناك مدينة محاصرة من 4 جيوش بـ4 اتجاهات مختلفة. كيف يمكن لجنرالات الجيوش الأربعة تنسيق هجومهم بحيث يحدث في آن واحد؟ حين أرسلوا رسولاً من الجيش الأول إلى الجيش الثاني، كان من الممكن أن يُقتل أو يصبح فاسداً لأنَّ الجيش الثاني قد تكون لديه أجندة مختلفة. إذن، كيف يمكنه حتى أن يصل إلى الجيشين الثالث والرابع، وأن يعود سالمأً إلى الجيش الأول مرة أخرى؟ من الممكن أيضاً أن يؤسر المرسال من المحاربين بالمدينة، ليواصل مدِعي آخر ينتحل شخصيته حمل رسالة بتوقيت خاطئ لشن الهجوم.
أسمعك تفكّر كيف يمكن أن يكون لهذا أي علاقة بالبتكوين؟ مهلاً لحظة.
إذا ترجمنا ما سبق إلى علوم الحاسب، فإنَّ معضلة الجنرالات البيزنطيين هذه، عند حلها، سوف تؤدي إلى حل المشكلة الرئيسية المتمثلة في مزامنة حالات الأنظمة الموزّعة. لا داعي للقلق، لن أدخل في التفاصيل الفنية هنا.
الآلية الرئيسية هي الثقة: متى كان باستطاعة الجنرالات والرسل الوثوق جميعاً في بعضهم البعض تمام الثقة، لن تكون هناك أي مشكلة هنا؛ ولكنهم لا يستطيعون ذلك. إذن، لابد من ابتكار نظام غير قائم على الثقة، بمعنى أنَّ الأطراف المختلفة ليست مضطرة لمعرفة هوية بعضها أو الوثوق في بعضها، ولكنَّها مع ذلك تُحقق الإجماع في الوقت نفسه.
والآن، تخيل الجيوش الأربعة خوادم تنفذ مهام قابلة للبرمجة: متى تلقت جميعاً في آن واحد مهمة الهجوم في توقيت محدد، وأجمعت على أنَّ هذه المهمة صحيحة، ستُحل المعضلة.
يمكن النظر إلى سلسلة البلوكتشين على أنَّها عبارة عن آلاف الجيوش البيزنطية الصغيرة المتصلة ببعضها، كلها تستقبل المعلومات ذاتها في الوقت ذاته، وكلها تتحقق من صحة إجراء معين في الوقت ذاته. وعندما تتغير الرسالة من جانب أحد الخوادم، ترى الخوادم الأخرى جميعاً هذا. وعندما يكون التغيير سليماً وفقاً للقواعد الرياضية التي تعرفها الخوادم جميعاً، فإنَّ الخوادم جميعاً ستعدّل استراتيجيتها: بأّلا تهجم عند طلوع الفجر، بل عند شروق الشمس، مثلاً. وفي نظام موزع قائم على الإجماع مثل البلوكتشين، يحل التحقق من صحة المعاملات محل الهجوم، في حالة العملات المشفَّرة.
نبذة قصيرة عن تاريخ نشأة البيانات
لمَّا كنت قد عشت في عصر ما قبل البيانات وشبكة الإنترنت، من المرجح أنَّك تتذكر الأثر الهائل الذي أحدثته الرقمنة: قبل ذلك، كنت تشتري ألبوماً موسيقياً لفرقة بينك فلويد Pink Floyd، ولم يكن بإمكان الأصدقاء الاستماع إليه إلا إذا أعرته لهم، وكانت الأغاني تذاع على الراديو، أو كنت ترتاد الحفلات الموسيقية الحية، وكم كنت محظوظاً حين ارتدتها!
وبقدوم لغة الصفر والواحد، تغير كل شيء! بلمسة سحر، صار بالإمكان تحويل المعلومات إلى شيء غير مرئي وغير ملموس: البيانات.
كانت الموسيقى ومقاطع الفيديو والأفلام تأتي إليك عبر أسلاك ممتدة تحت الأرض، وتظهر على شاشتك بعد أن أصدر صندوق صغير أصواتاً غريبة حين اتصلت “بالشبكة”. كانت الصور الأولى من مواقع الإنترنت الأولى، التي كانت تُحمّل من خلال أجهزة مودم بسرعة 56 كيلو بايت، تستغرق وقتاً طويلاً للغاية كي تظهر تدريجياً على شاشتك، فكانت الكثير من الصور العارية تظهر تدريجياً كأنَّها تتجرد من ملابسها ببطء شديد.
ثم جاءت إمكانية هائلة جديدة: النسخة الرقمية؛ فصار بإمكانك حرق ألبوم بينك فلويد الذي تملكه على قرص مضغوط CD تعطيه لصديقك، أو حرق صور إجازتك على قرص مضغوط، أو أي بيانات أخرى مهمة كنت بحاجة إلى نسخها لأسباب أمنية.
أول أقراص مرنة Floppy Disk كانت تُخزّن 80 كيلو بايت فقط، ومازال سبب تسميتها بالأقراص المرنة عجيباً بالنسبة لي. بعد ذلك، جاءت الأقراص المضغوطة، فكان بإمكان الأقراص المضغوطة الأولى أن تُخزن 700 ميغا بايت تقريباً. والآن، صارت هناك عصيّ الناقل التسلسلي العام USB Stick بسعة 2 تيرا بايت، أي 2 مليون ميغا بايت، أي أنَّها تسع لنحو 2.857 قرص مضغوط قديم قابل للحرق.
“لقد خضعت الرقمنة لطفرة كبيرة: من التراث الثقافي إلى السجلات الطبية، ومن الكتب إلى الألعاب، ومن الاتصال الهاتفي التناظري إلى الرقمي، وصولاً إلى بث مقاطع الفيديو تدفقياً، وموقعيّ يوتيوب YouTube ونتفلكس Netflix، وأخيراً إلى المال”.
أول أموال رقمية
لم يمرّ وقت طويل حتى ابتكر بعض المبرمجين الأذكياء أول حالة استخدام للأموال الرقمية. لقد كانت مميزاتها واضحة جلية منذ البداية: بإمكان المستخدم إرسال هذه الأموال البياناتية بسرعة فائقة من النقطة “أ” إلى النقطة “ب” بصورة تتجاهل الحدود. فضلاً عن أنَّ باستطاعة مستخدميها الحفاظ على سرية هويتهم، والأهم من ذلك كله أنَّ إصدارها لا يحتاج إلى حكومة.
صار بإمكان أي شركة لديها بعض المطوّرين الأذكياء والتسويق البارع أن تدخل مجال المال.
ولكن كيف سيُحال دون تعرّض هذه الأموال البياناتية الجديدة للنسخ؟
عندما ننظر إلى أول بيانات طبية على سبيل المثال، كيف أحلنا دون تعرّض تلك السجلات بالغة الحساسية من حيث الخصوصية إلى النسخ والنشر على شبكة الإنترنت بأسرها والبيع لكل من هو مهتم بها؟
هنا يأتي دور التشفير: شُفّرت الملفات وأصبحت مؤمنة بشدة، بأنَّ دفعت الشركات الأموال لكبار المخترقين البارزين مقابل التوصّل إلى علاج لعملية الاختراق التي وضعوها أنفسهم. وكان سكايب Skype هو أول برنامج رسائل عبر الإنترنت يستخدم التشفير مع مستخدميه.
الأمر نفسه أيضاً حدث مع أول أموال رقمية: كان المبتكرون بحاجة إلى تأمين هذه النقود البياناتية، بحيث لا تُنفق إلا مرة واحدة فقط؛ إذ إنَّ وجود عدة نسخ منها سوف يدّمر قيمتها.
“تعيّن عليهم إيجاد حل لثاني أكبر مشكلة بالنسبة للأموال الرقمية: قضية الإنفاق المزدوج”.
كان حلّهم، بعيداً عن التشفير، هو المركزية: أن تكون هناك خوادم مركزية لتأمين علامات الهاش Hashtag (وهي سلسلة من الأرقام الرقمية تعبّر عن الأموال) بحيث لا تتعرض للنسخ. بهذا، نشأ الشرط الأساسي للمال: ندرته، واستحالة ازدواج إنفاقه أو نسخه؛ وهنا كانت نقطة ضعفه.
إن لم يكن بالإمكان التنسيق إلا من خلال سُلطة مركزية، فإنَّها تصبح نقطة انهيار حاسمة، ويسهل تعقّبها.
لقد ابتكرت شركة ديجي كاش Digicash في منتصف تسعينيات القرن العشرين واحدةً من أوائل العملات المشفَّرة على الإطلاق. المشكلة أنَّها أصدرت تلك العملة المشفَّرة من نموذج مركزي. تخيّل أنَّها ابتكرت، في تلك الأيام، شكلاً جديداً من المال بعيداً عن الاحتياطي الفيدرالي الرسمي Federal Reserve، بعيداً عن السُلطة المركزية الحقيقية التي تتمتع بسُلطة إصدار الأموال ومحمية بالقانون. لقد كان الفأر يتحدى “العم سام”!
إنَّهم سحقوها بطرف إصبعهم!
نجحوا في ذلك لأنَّ ديجي كاش كانت مركزية، بمقر واحد ومجموعة من الخوادم المركزية التي كان من السهل تعقّبها وإيقافها عن العمل نهائياً.
الحل
بناءً على هذا التاريخ، ليس من العسير اتخاذ الخطوة القادمة. إنَّ الحل للجيل الثاني من الأموال الرقمية سيكون كالآتي:
شبكة لامركزية موزّعة قادرة على إصدار الأموال الرقمية والتحقق من صحة المعاملات، دون أن يعرف أي منها الآخر، ودون أن تضطر للوثوق ببعضها.
صحيح أنَّ ظهور أول بنية لهذا الحل قد استغرق حتى عام 2008، إذ ظهرت فجأةً في ورقة بيضاء نشرها شخص يُدعى ناكاموتو. الورقة البيضاء هي عبارة عن موجز يقدّم حلاً لمشكلة تكنولوجية. وحملت تلك الورقة البيضاء عنوان: “البتكوين: نظام للنقود الإلكترونية بنظام النظير إلى النظير” Bitcoin: A Peer-to-Peer Electronic Cash System.
تضمن هذا “الحدث البارز” مفتوح المصدر في القرن العشرين حلاً عملياً لمعضلة الجنرالات البيزنطيين.
كانت عشرات العملات المشفَّرة الجريئة قد حاولت التسلل إلى التخصص الواضح المتمثل في إنترنت المال واختراقه، ولكنَّها تعرضت جميعاً لحظر الدخول أو المصادرة أو الفشل، أو تصدى لها العائق الكبير المتمثل في وجوب طباعة النقود مركزياً بحكم القانون. بسبب نقطة انهيار حاسمة، ألا وهي تصميمها المركزي.
في الثالث من شهر يناير/ كانون الثاني 2009 فقط، انطلقت أول شبكة لامركزية حقيقية
إلى الأثير. والآن، لم يعد هناك شيء يمكن إيقافه عن العمل نهائياً.
“لقد نشأ إنترنت المال القابل للتنفيذ من مزيج فريد من الأحداث: نتيجة لحل معضلة الجنرالات البيزنطيين، وبسبب ميلاد شبكة الإنترنت، وكيلا ننسى، بسبب وجود أزمة اقتصادية وشيكة في عام 2008 شكّلت حافزاً هائلاً لظهور نظام بديل للمال”.
التكنولوجيا التي تُحدث التغيير
مع إنشاء نظام لا مركزي موزّع قائم على الإجماع، تولدت بذرة، لا لعملة مشفَّرة ستنجح فعلياً الآن فحسب، بل أيضاً لتغيير عميق الجذور من أجل البشرية، ومن أجل التمكين، ومن أجل تغيير التاريخ من خلال التكنولوجيا.
هذه التكنولوجيا تنطوي على وعوداً هائلة بالدمج الاقتصادي لمليارات الأشخاص، وفرصة هائلة للاتصال وتقديم الخدمات البنكية لغير المتعاملين مع البنوك؛ حيث سيتمتعون بحرية الوصول التجاري المجاني والفوري إلى أي شخص في أي مكان. إلى جانب إمكانية إنشاء اقتصاد مترابط قائم كلياً على نظام النظير إلى النظير، وثابت تماماً، ويستفيد أكثر من عيوب الماضي.
“لقد غيّرت هذه التكنولوجيا المال من تنفيذه المادي المركزي، وحوّلته إلى نوع من أنواع المحتوى الموجود على شبكة الإنترنت”.
والمال ليس سوى البداية: فأموال الإنترنت تعني أنَّ بالإمكان استخدام أي شكل رقمي على شبكة البلوكتشين لنقل القيمة، أو حتى لإنشاء أنظمة حوكمة جديدة باستخدام العقود الذكية.
المال في صورة تطبيق، المال في صورة رموز تعبيرية، المال في صورة مدفوعات بعملة النانو (NANO) مقابل سيارة ذاتية القيادة طلبت شرائها، المال في صورة لغة رقمية يمكن إرسالها في غضون ثوانِ لمزارع في الصين مقابل أن يُرسل الشاي رأساً إليك.
الاحتمالات لا حصر لها، ونحن مازلنا في بداية ثورة المال!
مواضيع تهمك
هناك مواضيع أخري متعلقة