في مقال نُشر يوم 26 أبريل/نيسان 2019، كتب أستاذ الاقتصاد في جامعة روما الدولية للدراسات الاجتماعية (LUISS)، بيرباولو بينينيو قائلاً: “إذا تساءلنا عما إذا كانت العملات المشفرة مثل البتكوين قادرة على تحطيم مركزية النظام المصرفي؟ فالإجابة هي نعم”.
في يوم 19 أغسطس/آب 2019، تعاون بينينيو مع إثنين من خبراء الاقتصاد وهما ليندا م. شيلينغ وهارالد أوليغ لنشر ورقة بحثية توضح تفاصيل هذه الإجابة المختصرة. وكان عنوان الورقة “العملات المشفرة، وتنافس العملات والثالوث المستحيل Cryptocurrencies, Currency Competition and the Impossible Trinity” إذ حاولوا خلال هذا البحث إثبات فرضيتهم باستخدام الرياضيات.
تناولت الورقة تطبيق الأبحاث المتعلقة بالبتكوين على معايير السياسة النقدية الدولية بهدف فحص إمكانية أن تتأثر العملات التقليدية بظهور العملات غير الحكومية (بما فيها العملات اللامركزية تماماً مثل البتكوين أو العملات المشفرة المركزية مثل عملة ليبرا Libra الخاصة بفيسبوك Facebook). وذلك عن طريق اقتباس عدد من الأفكار الاقتصادية، بدءاً من الأعمال السابقة للمؤلف مروراً بمفاهيم فريدريش هايك وهو من أهم مفكري المدرسة النمساوية في الاقتصاد وصولاً إلى أفكار بول كروغمان الحائز على جائزة نوبل والمتشكك في العملات المشفرة.
عبر سلسلة من الحسابات الشبيهة بنظرية الأوتار، ألقى هذا البحث الضوء على سؤال عام لطالما تأمله مستخدمو البتكوين وخبراء الإعلام والاقتصاد لسنوات وهو: ماذا يعني ظهور العملات المشفرة بالنسبة للاقتصادات العالمية المعتمدة على البنوك المركزية؟ تتوافق مقاربة هذه الورقة مع ورقة بحثية شبيهة غطتها مجلة بتكوين ماغازين Bitcoin Magazine مع نظرة تأملية في المواصفات التي تتطلبها عملة مشفرة عالمية.
يناقش الباحثون في الأساس فكرة أن وجود العملات المشفرة العالمية تصنع “الثالوث المستحيل“. وهو مفهوم اقتصادي دولي يفيد بأنه من المستحيل اجتماع ثلاثة عناصر معاً، هذه العناصر هي:
1- وجود أسعار صرف ثابتة للعملات الأجنبية
2- حركة حرة لرؤوس الأموال دون قيود
3- وجود سياسة نقدية مستقلة
الدوافع والمنهجية
بالرغم من اعتراف المؤلفين أن العملات العالمية ليست ظاهرة جديدة (على سبيل المثال، “الدولار الإسباني خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر والذهب في حقبة معيار الذهب والدولار الأميركي منذ ذلك الوقت”) إلا أن العملات المشفرة تعد ظاهرة جديدة لأنها تسعى لأن تكون وسيلة للمدفوعات. وبمستويات متساوية من السيولة، بمعنى قابلية الاستخدام والقبول، فإنها ستكون في موضع منافسة مباشرة مع العملات الوطنية في حالات المدفوعات والتحويلات المالية.
في ظل هذه الفرضيات، يحلل البحث “اقتصاد دولتين في إطار وجود عملة وطنية وعملة أجنبية وعملة مشفرة عالمية”. ويفترض البحث أيضاً أن العملة المشفرة العالمية المشار إليها سابقاً تستخدم في كل من الدولتين، وأن أسواق كل العملات مكتملة وأن حالة العملة من حيث خدمات التسييل تُحدّث دائماً.
بناء على المقاربات الرئيسية في السياسات الاقتصادية، يظهر النموذج أنه في نهاية المطاف، سيؤدي وجود العملة المشفرة العالمية إلى تساوي معدلات الفائدة وأن سعر صرف العملة الأجنبية بالنسبة للعملة الوطنية سيصبح “ملجماً لتفادي المخاطر” وهو ما يعني أنه سيصبح قابلاً للتنبؤ به.
نظراً لاستخدامها في كلتي الدولتين، فإن هذه الظاهرة الاقتصادية ستنتج عن الرابط بين العملتين المحلية والأجنبية والذي سينتج عن وجود العملة المشفرة العالمية، وهذا ما يسميه المؤلفون “توافق السياسات النقدية الناتج عن وجود العملات المشفرة CEMPS”.
بحسب الورقة البحثية، فإنه بمجرد حدوث هذا التوافق، ستواجه البنوك المركزية صعوبات شديدة كي تستعيد استقلال سياساتها النقدية، حينئذ، يقول الباحثون، يصبح الثالوث المستحيل أكثر استحالة.
وعندئذ، إذا كنت تدير بنكاً مركزياً، فلديك ثلاثة خيارات:
1- تثبيت سعر صرف العملة (مثلما كان يحدث مع الدولار الأميركي قبل عام 1982، عند دعم معيار غطاء الذهب)
2- السماح لرؤوس الأموال بحرية الحركة دون أخذ سعر الصرف في الاعتبار.
3- إنشاء سياسة نقدية مستقلة
الأمر المثير حول ذلك الثالوث المستحيل هو أنه يمكن تحقيق واحد فقط من جوانبه في وقت واحد. وبدخول عملة مشفرة عالمية إلى المشهد، سواء كانت البتكوين أو غيرها، سيتوجب على كل دولة أن تنافس تلك العملة المشفرة في أسواقها المالية. وتوضح الورقة البحثية “أن هذا يفيد بضرورة تساوي معدلات الفائدة الاسمية وأن سعر الصرف يجب أن يكون معدل وفقاً للمخاطر”.
والطريقة الوحيدة أمام البنك المركزي لجعل عملته الوطنية أكثر جاذبية من العملة المشفرة العالمية هي ما تسميه الورقة باسم “قفص الهروب”، وهو ما ينتهي بالعملة إلى سباق نحو الهاوية. بشكل نظري، فإن الدولة تخفض من معدلات الفائدة على عملتها الوطنية بهدف خفض تكلفة الفرصة لحاملي العملات وجعلها أكثر جاذبية من العملة المشفرة العالمية كوسيلة للمدفوعات.
لكن قفص الهروب هذا ليس جذاباً في حد ذاته، إذ يقول المؤلفون “لا يمكن خفض معدلات الفائدة الاسمية لأقل من صفر. والأكثر من هذا هو أن سباق الفئران بين بنكين مركزيين قد يجبرهما في النهاية على البقاء عند معدلات فائدة صفرية أو شبه منعدمة”.
وهذا قد يؤدي إلى دوامات من التضخم وأضرار بالاقتصاد الكلي أو احتمالية هجر الناس للعملة الوطنية لصالح العملة المشفرة العالمية. وهذا مقلق لأنه يخاطر بقدرة البنك المركزي على القيادة فيما بعد بهدف إحداث الاستقرار الاقتصادي.
البتكوين وقانون غريشام
إذا تخيلنا حدوث هذا السيناريو، ستحتاج العملة المشفرة العالمية لتقديم خدمات سيولة يمكن الاستفادة منها مباشرة. وإذا تخيلنا أن البتكوين هي تلك العملة المشفرة العالمية، فعليها أن تكون وسيلة بديلة للمدفوعات والتي تقدم خدمات مرضية تمكنها من منافسة العملة الوطنية. وبالرغم من أن لديها رأس المال السوقي الأعلى بين العملات المشفرة، إلا أن معدلات قبول وتبني البتكوين أقل بكثير مما تستحقه.
بالرغم من ذلك، تتشارك البتكوين مع العملة العالمية الموجودة حالياً: الذهب، في عدة سمات. إذ ليس للذهب أي قيمة جوهرية ومع ذلك يحتفظ الناس بثرواتهم في الذهب على مدار قرون. يسمى سلوك المستثمرين الذي يتضمن الاحتفاظ بنوع ما من الأصول مع استخدام نوع آخر كوسط للتداول بقانون غريشام. وهو يفيد باختصار أن النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق. وعلى مستوى الاقتصاد الكلي، يؤكد هذا القانون ما تستخلصه الورقة البحثية والذي مفاده أن العملة المشفرة العالمية ستمثل نقوداً “جيدة” وأن العملة الوطنية ستمثل النقود “الرديئة”. يؤكد قانون غريشام على أن الاحتفاظ بالعملات المشفرة (Hodling) يشابه كثيراً سلوك التكديس (Hoarding) ولكن باستخدام البتكوين.
قد يقول بعض الاقتصاديين أن الوقت لا زال مبكراً جداً لمقارنة البتكوين بالذهب، إلا أن أداء البتكوين في عقدها الأول كان أفضل من الذهب بكثير. وتصدق الورقة على هذا بسبب الافتراض القائل بأن العملة المشفرة العالمية ستتطلب مستويات من السيولة أعلى من تلك التي للذهب. والبتكوين بالفعل تقدم مستويات عالية من السيولة للمعاملات العابرة للحدود.
بالطبع يمكن لأي من العملات المشفرة أن تصبح “العملة المشفرة العالمية” التي تتحدث عنها الورقة. إلا أن العملات المشفرة الحكومية لن تنجح في ظل هذا النموذج لهذه الأسباب:
1- يفترض المؤلفون أن هذه العملة المشفرة العالمية ستحظى بقبول في كافة أنحاء العالم وهذا مستحيل بالنسبة لعملة حكومية إلا إذا انقلبت السياسة العالمية رأساً على عقب.
2- لن تحظى العملات المشفرة الحكومية بخواص الذهب والبتكوين كمخزن للقيمة، مما يعني أنه يفترض في تلك العملات أن تكون لديها مستويات سيولة للمعاملات الدولية أقل بكثير من البتكوين وبالأخص في حالات التعامل مع بنوك مركزية أخرى.
فقط يمكن للعملات التي تصدر بشكل خاص أن تتوافق مع متطلبات هذا النموذج. وبالرغم من أن رأس المال السوقي للبتكوين يتفوق بكثير على كل العملات المشفرة الأخرى، إلا أن عملة ليبرا التي ستطلقها فيسبوك هي أحد دوافع هذا البحث. وهذا لأن فيسبوك ليس دولة، وبالتالي، لا تصبح عملة ليبرا أقل خصوصية من البتكوين في إطار هذا النموذج.
تقول الورقة: “بعد 10 سنوات من ظهور البتكوين، تحاول فيسبوك إطلاق عملة ليبرا المصممة لجذب 2 مليار مستخدم حول العالم. وهذا لم يفت عدد من الشركات الأخرى. وبالرغم من وجود وسائل للمدفوعات العالمية بالفعل، إلا أن سهولة استخدام تلك العملات المشفرة الجديد بصدد خلق عملات عالمية بصفات مختلفة كلياً”.
والأكثر من هذا، يشكل دعم ليبرا بسلة من العملات المشفرة الأخرى مزيداً من الضغط على العملات المشفرة الحكومية أكثر مما تشكله البتكوين، وهذا لأنه يمكنها منافسة تلك المعاملات بتصميمها المدعوم بالأصول.
تثبت الورقة هذه النظرية عن طريق توضيح أن المنافسة بين العملات نفسها ستزداد إذا كانت العملة المشفرة العالمية مدعومة بأصول. وهذا يعني أن العملة المشفرة العالمية يمكن أن تنشئ سندات في إطار خدمات السيولة الخاصة بها وبالتالي “ستجمع بين ميزة السيولة الخاصة بالنقود وميزة دفعات الفائدة الخاصة بالسندات”.
قيل إن ليبرا ستحظى بكلتي الميزتين. وبالرغم من أن البتكوين ليست مدعومة بأي نوع من الأصول الأخرى، إلا أنه تم إطلاق “أول سند أصلي للبتكوين في العالم”.
إذا كانت هناك عملة مشفرة عالمية ستُخل بالفعل باقتصاداتِ البنوك المركزية حول العالم، فالسؤال الذي لم تجب عليه الورقة هو ما إذا كانت تلك العملة ستكون مدعومة بالأصول أم لا. وعلى كل حال، تؤكد الورقة على أنه سيحدث خلل في السياسة الدولية وستفقد البنوك المركزية قدرتها على السيطرة.
مواضيع تهمك
هناك مواضيع أخري متعلقة