تحتل البنوك المركزية والبنوك التجارية صدارة التعاملات في منصات التداول العالمية بحساب حجم التداول البالغ 5 تريليون دولار يومياً. بالنظر عن قرب لتوازن القوى في تلك الصناعة العالمية سيتسنى لنا فهم كيف يمكن للبنوك أن تتلاعب وتسيطر على العملات المشفرة في الأسواق غير النظامية.
البنوك المركزية: سماسرة العملة
تعد البنوك المركزية أكبر المؤسسات في سوق منصات تداول العملات، وتحتفظ بالاحتياطي الخاص بعملتها النقدية بالإضافة إلى عملات أجنبية للأغراض التجارية والإستراتيجية. وعن طريق تحكمها في السياسات البنكية النقدية والتجارية، تتمكن البنوك المركزية من السيطرة بدرجة كبيرة على اتجاهات سوق العملة في المدى القصير والمتوسط والطويل.
ولإعلان البنوك المركزية عن أنباء مؤثرة مثل تعديل سعر الفائدة وتقارير التضخم أثر كبير على حركة الأسعار في المدى القصير والمتوسط نظراً لأن فاعلي السوق هم المسؤولون عن التسعير، ثم تؤثر بعد ذلك على اتجاهات طويلة المدى مع تجاوب المستهلكين والشركات مع حركة الأسعار.
هل يمكن للبنوك المركزية التلاعب بالعملات المشفرة؟
من المفترض أن البتكوين (BTC) وغيرها من العملات المشفرة اللامركزية ذات الحجم ثابت مستقلة ومتعارضة تماماً مع نموذج سيطرة الدولة الخاص بالبنوك المركزية، والذي سخر منه ساتوشي ناكاموتو وقت إنشائه لبلوك التكوين والذي احتوى التعليق التالي: “جريدة التايمز، 3 يناير/كانون الثاني، 2009 المستشارة على وشك إصدار حزمة مساعدات جديدة للبنوك”. الأمر الذي يشير إلى وجود البتكوين خارج دائرة نفوذ البنوك المركزية، وهو ما كان من المفترض أن يعجل بنهاية تلك العملات.
قاومت البنوك المركزية البتكوين وباقي العملات اللامركزية ببغض شديد، لأن وجودها يعني احتمال وجود نظام مالي خارج نطاق نفوذها، إلا أن الشهور الأخيرة شهدت تحول انتباه البنوك المركزية إلى أخطار أخرى بعد إعلان فيسبوك عزمها إطلاق عملة الليبرا، بالإضافة لاعتزام بعض الشركات إطلاق عملاتها الرقمية.
وبينما لا تستطيع البنوك المركزية التحكم في العملات المشفرة حتى الآن كما تتحكم بعملاتها النقدية عن طريق تعديل معدل الفائدة من ضمن تكتيكات أخرى، إلا أن البنوك المركزية بحوزتها الوسائل اللازمة لخلق نظام يمكنه التأثير على استكشاف الأسعار في سوق العملات المشفرة.
البتكوين كعملة احتياط 3.0
عن طريق السياسة، تستطيع البنوك المركزية حفز التوابع التجارية لتحقيق رؤية هال فيني الخاصة ببنك البتكوين، مستنسخين في ذلك نظام بنوك الاحتياط الموجود حالياً مع استعمال البتكوين كعملة الاحتياط ودمجها فعلياً بداخل منصات تداول العملات.
وربما تكون أول خطوة تجاه تحقق نبوءة فيني قد اتخذت بالفعل، إذ تستعمل البنوك نوع من “النقد الرقمي” يمكن استبداله بالبتكوين. وتشير التقارير المتداولة إلى عزم معظم البنوك المركزية على إطلاق عملاتها الرقمية الخاصة بها، مع تخطيط الصين لإطلاق عملتها الرقمية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وبالطبع، يمكن لتلك العملات الرقمية السيادية أن تتحول إلى نقد إلكتروني كما تصوره فيني إذا حلت البتكوين محل الدولار الأميركي كعملة الاحتياط العالمية، ومحل الذهب كمخزن للقيمة.
وفي سيناريو آخر، يمكن للدول التي لا تعوّم عملاتها بشكل حر مثل الصين في منصات تداول العملات، وإنما تربطها بالدولار أو أي عملات نقدية استراتيجية، أن تتحول إلى البتكوين كعملة احتياط. إذ يتطلب الحفاظ على معدل الربط الاحتفاظ بكميات ضخمة من العملات الأجنبية لدى الدولة، أو 3.1 تريليون دولار أميركي في حالة الصين، مما قد يفاقم نسبة تضخم عملة الاحتياط منتجاً تأثيرات جانبية ضارة وغير مرغوب فيها.
ونظراً لتميز البتكوين بأنها غير قابلة للتضخم، وأن عددها ثابت غير قابل للزيادة، فمن غير الاسهل استخدامها كسلاح سياسي من قبل البنوك المركزية الأجنبية، وهو ما يجعلها عملة ربط مناسبة مع توسع رسملتها لكي تساعد على استقرار الأسعار.
وبسبب خفة القيود التنظيمية في منصات تداول العملات، فإن البنوك المركزية قد لا تحتاج إلى إتخاذ إجراءات بعينها من أجل إعطاء أفضلية تفاوضية للبنوك التجارية في سوق العملات المشفرة.
تنظيم العملات ومسألة السيادة
انتشرت السردية المتعلقة بسهولة التلاعب بالعملات المشفرة وغياب الرقابة عليها منذ ظهور البتكوين، في مقارنة مع الرقابة الشديدة التي تخضع لها أسواق السندات. ومن المثير للسخرية أن أسواق العملات النقدية، وهي أقرب نظير للعملات المشفرة، غير خاضعة للتنظيم.
تمتاز منصات تداول العملات العالمية بأنها لا مركزية مما يعني عدم وجود هيئة تنظيمية معينة تراقب على العمليات الجارية فيها. وعلى المستوى المحلي، فإن منصات تداول العملات المباشرة، والتي تشكل تعاملاتها 85% من إجمالي التعاملات، غير خاضعة للتنظيم في كل مراكز تلك المنصات بما فيها المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وسويسرا. بينما تخضع تجارة الأوراق المالية المستقبلية، والتبادلات، والتعاملات المالية غير المباشرة للتنظيم في تلك المناطق، بالإضافة إلى المشتقات.
إذا ما أدارت البنوك العملات المشفرة بنفس الشكل، وهو السيناريو الأقرب للتحقق بعد إعلان لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية أن البتكوين والإيثريوم (ETH) لهما خصائص غير مشابهة للسندات، فيجب فهم طبيعة دورهم في منصات تداول العملات.
كيف تسيطر البنوك التجارية على منصات تداول العملات
تتحكم مجموعة من البنوك العملاقة، مثل غولدمان ساكس Goldman Sachs، ودويتشه بانك Deutsche Bank، وUBS، وسيتي غروب Citigroup في منصات تداول العملات باعتبارها من كبار المتعاملين فيها، إذ تتجاوز نسبة مشاركتها 50% من حجم التداولات الكلي.
تحقق تلك البنوك ربحية من خلال الفارق بين سعر العرض وسعر الطلب الذي تعرضه على المضاربين المؤسسين والمؤسسات المتعاملة بداخل منصات التداول المالية، كما تحقق ربحية من خلال برامج التجارة الخاصة بها. إذ تتولى البنوك مسئولية إدارة تعاملات تبلغ فيمتها مليارات الدولارات بالنيابة عن عملائها من الشركات، ومن خلال دفعها للأسعار في اتجاه معين، يصبح بوسعها بشكل قانوني استغلال المعلومات الخاصة. وتعد تلك الممارسة غير قانونية في سوق السندات، وتعرف باسم التداول المسبق.
ويمكن للبنوك أن تسخر قوى شبيهة في حالة العملات المشفرة، خاصة في حالة منح البنوك المركزي لهم القدرة على التلاعب في اسكتشاف أسعار البتكوين عن طريق أنظمة الاحتياط الجزئية. إلا أن السيناريو الحادث في الوقت الحالي أكثر مصداقية.
إذ أفصح كل من سيتي غروب وغولدمان ساكس وبنوك كبرى أخرى عن خططهم لأن يتولوا دوراً في إدارة الأصول المشفرة مع الاستثمار في سوق إدارة الاصول الموجودة بالفعل وكبار لاعبيه. وبمجرد نضجها، قد تتحول شركة بت غو BitGo وغيرها من الشركات الوصائية الكبرى إلى أهداف تسعى البنوك للاستحواذ عليها، مما سيوفر لهم إمكانية الوصول لنفس المعلومات الخاصة التي تتمتع بها البنوك وتستخدمها في منصات تداول العملات عن طريق الإشراف على العمليات التجارية.
ولا يوجد حتى الآن جدول زمني واضح لدخول تلك البنوك لسوق العملات المشفرة. إلا أن هذا الموضوع قد خضع للكثير من الجدل والتشويش.
ويبدو أن المدير التنفيذي لجاي بي مورغان JP Morgan، جايمي ديمون، على وشك أن يصبح فتى غلاف عالم العملات المشفرة في وول ستريت، بعد نقده اللاذع للبتكوين باعتبارها “احتيالاً” و”خدعة”، والذي جاء قبل شهور من إعلان شركته أن للبتكوين “قيمة جوهرية” وكشفت عن عملتها المشفرة الخاصة بها، بعدما وصل سعر البتكوين إلى أعلى مستوياته في الربع الرابع من عام 2017 وازدادت شهرته بشكل غير مسبوق. عندها، بدأ البنك في كشف بعض أوراقه.
وقاد بنك غولدمان ساكس، والمعروف في وول ستريت بأنه ثاني أكثر البنوك ربحية في العالم، القطيع في شهر مايو/أيار من عام 2018 بعدما ألمح إلى إمكانية إطلاق مكتب لتداول البتكوين، وبعد شهر من ذلك الإعلان، اعترف البنك أنه يقوم بتداول الأوراق المستقبلية الخاصة بالبتكوين بالنيابة عن عملائه. وفي شهر أغسطس/آب بعد التيقن من سوق دببة البتكوين، قالت المؤسسة البنكية العملاقة أنها عطلت خطط تداول البتكوين بسبب عدم اليقين التنظيمي المحيط بالأمر. ولم يصدر البنك أي بيانات تقريباً بهذا الخصوص منذ ذلك الحين.
الجانب المظلم للسوق
لا يقتصر الأمر على سيطرة البنوك الكبرى على منصات تداول العملات عن طريق استغلال المعلومات المتاحة لها فقط، في وسط يمتاز بخفة القيود التنظيمية حوله، وإنما يمتد الأمر لما هو أخطر من ذلك. إذ وقع عدد من البنوك الكبرى تحت طائلة قائمة من الاتهامات الخطيرة والقضايا الخاصة بالتواطؤ، والتلاعب السعري، بالإضافة للعديد من حالات الغش التي يمكن ارتكابها في هذا النوع من الأسواق. وتتعدد الأمثلة، إلا أن المشرعين لم يقوموا بإغلاق أي بنك حتى الآن نتيجة تلاعبه في منصات تداول العملات.
ومن أشهر الأمثلة على ذلك هو ما كُشف عنه في 2012 أن بنك باركليز Barclays وبنك UBS، بالإضافة للعديد من البنوك الكبرى قد تلاعبت لما يزيد عن العقد في سعر الفائدة السائد بين المصارف في لندن، وهو ما يعتبره البعض أهم مؤشر مالي مرتبط بأصول تقدر قيمتها بتريليونات الدولارات، لمصلحة المتاجرين في المشتقات.
وفي نهاية عام 2018، اتفق عدد من المستثمرين المؤسسيين ومن ضمنهم بلاك روك BlackRock، وهي أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، على تسوية تتجاوز قيمتها ملياري دولار مع 15 من البنوك الكبرى بعد ادعاء المستثمرين أن البنوك تلاعبت بسوق منصات تداول العملات.
وجاء نص الشكوى كالتالي: “عن طريق التواطؤ للتلاعب في أسعار منصات تداول العملات، والمؤشرات، والفوارق بين سعر العرض والطلب، فإن المدعى عليهم قيدوا التجارة، وقللوا من المنافسة، ورفعوا الأسعار بشكل اصطناعي، مما أضر بالمدعين”.
وإذا دخلت البنوك سوق العملات المشفرة واستعملت نفس التكتيكات التي استعملتها لغرض السيطرة على منصات تداول العملات، بغض النظر عن قانونيتها، فسيكون لذلك عواقب وخيمة على سعر استكشاف العملات المشفرة. ففي النهاية، فإن كل البنوك التجارية والبنوك المركزية ستتربح من وضع تحكمات تشبه تحكمات العملات النقدية على العملات المشفرة ومن تعريض السوق لنفس الديناميكات الحاكمة لسوق تداول العملات.
مواضيع تهمك
هناك مواضيع أخري متعلقة