تقول العديد من المؤشرات إن ألمانيا، العربة المحركة لاقتصاد أوروبا الهائل، تدخل في مرحلة صعبة. وعندما تعطس الجمهورية الاتحادية، فإن بقية القارة العجوز تُصاب بالبرد. وفي هذه المرة، يمكن أن تنقل ألمانيا العدوى لبقية العالم أيضاً. ذلك لأن مشرعي الدولة مشغولون بإصدار المحاذير، ويبدو أنهم يستهدفون العملات المشفرة الآن. ستكون الأزمة المالية والاقتصادية في ألمانيا بمثابة حدث عالمي جلل، إذ ستؤثر في كافة الأسواق. ويبدو أن السؤال أصبح عن موعد حدوثها لا عن احتمالية حدوثها من عدمه.
التدهور الأكبر في هذا العِقد، الصناعة الألمانية تُعاني
تشهد القدرة الإنتاجية لمنطقة اليورو والاتحاد الأوروبي تدهوراً واضحاً، بنسبة 2.7 بالمائة سنوياً في شهر يناير/كانون الثاني وبنسبة 1.9 بالمائة في شهر أبريل/نيسان مقارنة بالشهور الماضية. وفي مايو/أيار، تدهورت طلبات المصانع بنسبة 2.2 بالمائة عن الشهر الماضي وسجلت تدهوراً سنوياً نسبته 8.6 بالمائة، وهو الأكبر منذ عقود. وفي النصف الأول من عام 2019، تدهورت حتى مبيعات الجعة بنسبة 2.7 بالمائة، وذلك بحسب مركز ديستاتيس Destatis وهو مركز الإحصاء الاتحادي.
تؤثر حرب التجارة العالمية والغموض السياسي في المنطقة وخارجها بشكل سلبي على الاقتصاد الألماني الذي يعتمد بشكل أساسي على الصادرات. إذ تشكل الصادرات حوالي نصف الناتج الاقتصادي للدولة سنوياً. تُصنف ألمانيا في المرتبة الأولى في الصادرات بالنسبة لقارة أوروبا، والثالثة على مستوى العالم، بعد الصين والولايات المتحدة الأميركية.
هناك العديد من العوامل التي تؤثر سلباً على الصادرات الألمانية، التي سجلت تدهوراً بنسبة 0.5 بالمائة في أبريل/نيسان الماضي. من بين هذه العوامل ضعف الطلب من الصين، وهي سوق رئيسية للمنتجات الألمانية، نتيجة تباطؤ معدلات النمو. وأيضاً فإن التعريفات الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على الصلب والألومنيوم في غاية الأهمية، إذ تبحث إدارة ترامب أيضاً في فرض الجمارك على السيارات الأوروبية.
في خطابها للبرلمان الألماني، حذرت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل من أزمة مالية عالمية محتملة كنتيجة للحرب التجارية مع الولايات المتحدة. وأكدت على أن فرض التعريفات الجمركية على السيارات سيكون أخطر بكثير منها على الصلب. ويعد تدهور الطلب على السيارات هو الأكبر من بين القطاعات الأخرى للصناعة. وهناك أيضاً قضية انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي والتي يجب على ألمانيا التعامل معها أيضاً.
عودة أسابيع العمل القصيرة
كرد فعل على هذا التدهور، هناك عدد متزايد من الشركات الألمانية التي تعيد تقديم أسابيع العمل القصيرة، وهو نظام العمل الذي تم تنفيذه خلال الأزمة المالية العالمية لاحتواء تأثيرها على الشركات الصناعية والقوة العاملة بها. وفقاً لدراسة استقصائية قام بها معهد البحوث الاقتصادية (IFO) بميونخ، فمن المتوقع أن تقوم نسبة 8.5 بالمائة من الشركات في القطاع الصناعي الألماني بتقديم برامج أسابيع العمل القصيرة خلال الأشهر الثلاثة القادمة.
وبحسب وكالة دويتشه فيله Deutsche Welle، فإن هذه النسبة هي الأكبر منذ عام 2013، إذ كانت نسبة الشركات التي تفكر في تقديم أسابيع العمل القصيرة حوالي 2.6 بالمائة فقط في العام الماضي. ولكن لا يزال لدى ألمانيا واحداً من معدلات البطالة الأقل بين الدول المتقدمة. في عام 2018، كانت نسبة المواطنين العاطلين ما بين سن 15 و74 عاماً تعادل 3.4 بالمائة فقط. ولكن لا تزال نسبة البطالة في منطقة اليورو أعلى منها في ألمانيا، إذ كانت النسبة 7.9 بالمائة في نهاية ديسمبر/كانون الأول. تساعد أسابيع العمل القصيرة على الحفاظ على انخفاض معدلات البطالة بأقصى قدر ممكن.
وأجبرت المؤشرات السلبية البنك المركزي الألماني على مراجعة توقعاته الاقتصادية، مع الأخذ في الاعتبار ما يحدث في التجارة العالمية من صراعات بين اللاعبين الكبار في العالم. والآن يتوقع بوندس بنك Bundesbank أن ينمو الاقتصاد الألماني بنسبة 0.6 بالمائة فقط في هذا العام. ويمثل هذا الرقم تراجعاً واضحاً عن التوقع السابق الذي أعلن عنه في ديسمبر/كانون الأول الماضي بأن معدل النمو سيكون 1.6 بالمائة.
انهيار اقتصادي يختمر في أوروبا
يظل الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو بالأخص ذات تنوع كبير بالنسبة للحالة الاقتصادية للدول المشاركة فيها. فهناك بعض الدول، بالأخص القسم الجنوبي، مستمرة في تسجيل معدلات بطالة من رقمين عشريين، فعلى سبيل المثال، معدل البطالة في اليونان يساوي 18 بالمائة. وبينما تعد الحالة الاقتصادية في إسبانيا جيدة نسبياً، تعاني إيطاليا عملياً من ركود اقتصادي. لم تتمكن روما من تجاوز بطء معدلات النمو، وحتى بعد مرور عقد على الأزمة المالية عام 2008، لا زال الاقتصاد الإيطالي أضعف مما كان قبل الأزمة.
في مايو/أيار، تحدث أحد كبار مستشاري الحكومة الألمانية عن مخاوفه بأن تكون هناك أزمة مالية على وشك الحدوث في أوروبا، وذلك على شبكة بي بي سي BBC. اختار عضو المجلس الألماني للخبراء الاقتصاديين، دكتور لارس فيلد، إيطاليا على وجه التحديد. إذ ذكر أن الدولة صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في منطقة العملة الواحدة تصارع للخروج من حالة الركود بينما يتوجب عليها التصدي لمشكلتين، وهما الأزمة المصرفية التي يمكنها التأثير في منطقة اليورو، ومشكلة الدين الحكومي المرتفع للغاية، والذي سجل نسبة غير معهودة، إذ شكّل 132.2 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي في عام 2018.
يبدو الركود في إيطاليا، التي يقع اقتصادها في المرتبة الثامنة على مستوى العالم من حيث الناتج الإجمالي المحلي الاسمي، سيئاً بشكل ملحوظ، ولكن تباطؤ معدل النمو في ألمانيا سيسبب أضراراً أكبر. إذ يمكن أن يتسبب انفجار الركود في الجمهورية الفيدرالية في اندلاع أزمة عالمية. في العام الماضي، كان دكتور فيلد من أول المحذرين من تباطؤ نمو أكبر اقتصادات أوروبا. وبالفعل انكمش الاقتصاد الألماني في الربع الثاني من هذا العام. ولكن بالرغم من قلق مستشار الحكومة، إلا أن السلطة التنفيذية في برلين تبدو في حالة من الإنكار.
يصر وزير المالية قائلاً: “ليست لدينا أزمة”
في حوار حديث له مع وكالة بلومبرغ Bloomberg، قلل وزير المالية الألماني أولاف شولتز من شأن المخاوف المتعلقة بالحالة السلبية للاقتصاد الألماني، وكشف أن الحكومة الفيدرالية لا تخطط لتحفيز النمو الاقتصادي. فهو يؤمن أن حل الأزمات التي تسبب بها البشر، مثل حرب التجارة وأزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ستعزز من معدلات النمو في عام 2020، وهي السنة التي يتوقع العديد من الخبراء أن تشهد الأزمة الاقتصادية الكبرى. وأكد أن الإنفاق الحكومي الآن سيؤدي إلى زيادة التضخم بدلاً من تحفيز النمو. إذ قال: “لسنا في الموقف الذي يستدعي التصرف وكأننا في أزمة، فنحن لسنا في أزمة”.
وصرح وزير المالية بهذه التعليقات بعد إفصاح البنك المركزي الأوروبي عن نيته لزيادة الدعم النقدي لاقتصاد منطقة اليورو خلال الشهور القادمة. إذ أكد رئيس البنك المركزي الأوروبي، ماريو دراغي على احتياج القطاع الصناعي في ألمانيا وغيرها في الدول الأوروبية إلى زيادة في الإنفاق الحكومي.
في يونيو/حزيران، أوضح البنك المركزي الأوروبي أن معدلات الفائدة المنخفضة للغاية ستبقى حتى منتصف عام 2020 على أقل تقدير، وهذه الفترة تزيد بستة أشهر عن الفترة المستهدفة من قبل. بالإضافة إلى ذلك، تخطط إدارة البنك المركزي الأوروبي لتقليل إضافي قد يجعل معدلات الفائدة سالبة. ففي منطقة اليورو، ظلت معدلات الفائدة في انخفاض لمدة سبع سنوات وكانت تساوي 0 بالمائة منذ عام 2016. أما عن التسهيلات الكمية فهي تلوح في الأفق أيضاً، وهذا يعني طباعة المزيد من الأموال.
ستواجه هذه السياسات صعوبة في الحصول على الدعم من الحكومة الائتلافية في ألمانيا بقيادة أنغيلا ميركل. إذ يؤمن أولاف شولتز، والذي يعمل أيضاً نائباً لها، أن التخفيضات التي تمت على الضرائب حتى الآن والإنفاق على البنية التحتية تسيران بشكل جيد، وأن التحفيز الإضافي للنمو الاقتصادي لن يكون أمراً حكيماً. والأمر في حقيقته يتلخص في أن فرانكفورت ترغب في دعم النمو الاقتصادي عن طريق التسهيلات الكمية ومعدلات الفائدة السالبة، بينما ترى برلين أن النتيجة الوحيدة لذلك هو ارتفاع الأسعار.
أكبر من أن تفشل
إذا كان هناك شيء ما يخيف ألمانيا، فهو التضخم. نظراً لكونها مُصدِّراً كبيراً لمنتجات ذات قيمة مضافة كبيرة وجودة عالية، فإن تضخم اليورو سيؤثر سلباً على عوائدها. ويعد هذا أحد أكبر التناقضات في منطقة اليورو، إذ تحتاج بعض الدول مثل إيطاليا إلى معدلات تضخم أعلى كي تحتفظ صادراتها بأسعار تنافسية بالنسبة للصادرات الألمانية.
وضعت برلين نفسها بالإضافة لبقية الدول الأوروبية في موقف يائس على الأغلب. إذ تتصرف منطقة اليورو بالطريقة التي تفيد أكبر اقتصاداتها. وهذا يؤدي إلى تركز الأموال في ألمانيا، التي ظلت بنوكها تدفعها للخلف لتصبح كبقية الدول الأضعف في منطقة اليورو، تلك الدول التي لا تزال منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي محتفظين بها في أسواقهما. وعاجلاً أم آجلاً، سيفقد المقترضون الفقراء قدرتهم على تحمل المزيد من الديون. وهذا ما حدث بالفعل مع اليونان على سبيل المثال.
أصبحت ألمانيا مُقرضاً وموّرداً ومستهلكاً أكبر من أن يفشل. وبالتالي، فإن حدوث أزمة ألمانيا سيجر بالتأكيد بقية الدول في منطقة اليورو ويؤثر سلباً على الاقتصاد العالمي. والآن، تمول أوروبا ألمانيا عن طريق معدلات الفائدة المنخفضة والسالبة. والموقف يقترب من النقطة التي يخرج فيها المنطق الاقتصادي الطبيعي من المعادلة. إذ يدفع المستثمرون حرفياً المزيد والمزيد من الأموال لألمانيا، وكما ذكر المحرر الاقتصادي في جريدة فيلت Welt، هولغر تشابيتس في تغريدة له هذا الأسبوع، فإن برلين باعت ديوناً عمرها 10 سنوات مؤخراً بقيمة 2.345 مليار يورو بمعدل فائدة غير مسبوق يعادل -0.141 بالمائة.
أياً كان ما يقوله أو يفعله وزير المالية الألماني، فهناك إحساس راسخ بأن الأزمة المالية الكبرى على الأعتاب. إذ تُعد المصاعب التي يواجها دويتشه بنك، وهو أكبر المؤسسات المالية الألمانية وأكبر مقدمي الخدمات البنكية، دليلاً على أن هناك خطأ ما في النظام المالي التقليدي. وحقيقة أن البنوك المركزية اشترت ذهباً بقيمة 15.7 مليار دولار في النصف الأول من هذا العام، ونزوع المستثمرين الألمان إلى الاستثمار في صناديق تداول مدعومة بالذهب، كما ذكرت صحيفة فاينانشال تايمز Financial Times، مؤشر قوي على الجهود المبذولة لتنويع أشكال الثروة بعيداً عن العملات الرسمية.
في حوار أجراه المستشار الاستراتيجي لوزارة المالية الألمانية، مارك فريدريش مع موقع بتكوين نيوز news.bitcoin.com، قال: “لدينا في أوروبا اتحاد مالي مختل. إذ تعاني دول الجنوب مع اليورو ولن تتحسن حالتها في نطاق اليورو”. ويعتقد فريدريش أن الركود قادم بالفعل ويؤمن أن هناك نظاماً مالياً جديداً سيتمخض على أنقاض هذه الأزمة، وسيكون هذا النظام رقمياً تستخدم فيه المجتمعات العملات اللامركزية.
ولسوء الحظ، يصعب المشرعون الألمان الأمر على حرية العمل للشركات التي تعمل في العملات المشفرة داخل ألمانيا. إذ تحتاج الشركات داخل هذه الصناعة، مثل منصات التداول ومقدمي خدمات المدفوعات وإدارة الأصول إلى تقديم طلب للحصول على رخصة من الهيئة الرقابية المالية الفيدرالية، بافن Bafin. تحتاج الشركات للحصول عليها قبل نهاية هذا العام، بالتزامن مع وضع قواعد جديدة لسياسات مكافحة غسيل الأموال (AML) القائمة على التوجيه الخامس للاتحاد الأوروبي المختص بمكافحة غسيل الأموال والذي سيُترجم في القانون الألماني في يناير/كانون الثاني من عام 2020.
وبحسب معلومات انتشرت على منتديات العملات المشفرة، فإن هذه التشريعات الجديدة تؤثر بالفعل على المنصات التي تستخدم العملات المشفرة. على سبيل المثال، لم تعد ألمانيا ضمن قائمة الدول التي تدعمها شركة بتباي Bitpay، وهي أحد أكبر مقدمي خدمات المدفوعات والتي تسمح للشركات من خارج الصناعة بقبول العملات المشفرة عن طريق تحويلها إلى عملات رسمية.
مواضيع تهمك
هناك مواضيع أخري متعلقة