مع نضج تكنولوجيا البلوكتشين، لا بد أن ينضج معها متداولو العملات المشفرة، وإلا لن يلحقوا بالركب.
وتقوم تقلبات سوق العملات المشفرة في المقام الأول على المضاربة قصيرة المدى لأنه لا يزال هناك طريق طويل قبل تبني العملات المشفرة على نطاق واسع. وتلمس كثير من المشروعات الآلام المتزايدة: لأنها ليست جديدة بما يكفي ليراهن عليها المتداولون بقوة، وليست ناضجة بما يكفي لتسويغ رأس مال سوقي أعلى.
وعلى مدى زمني طويل بما يكفي، إذا حققت المشروعات أهدافها وتم اعتماد تكنولوجياتها، فيمكن الوصول إلى توازن بين الترويج والنضج. ومع ذلك، المتداولون الذين يظلون مركزين فقط على الترويج خلال العملية الانتقالية قد يكونوا هم من يُلقى عليهم باللوم بعد أن تهدأ الأمور.
البندول الثلاثي لترويج العملات المشفرة في ذروته
في الوقت الحالي، سمعنا جميعاً عن دورة ترويج غارتنر. والفكرة الأساسية هي أنه مع أي تكنولوجيا ناشئة، تمر التوقعات عن إمكاناتها بنمط معين على مدى زمني حتى الوصول للنضج:
- اهتمام جماهيري أولي
- توقعات متزايدة تصل إلى الذروة في النهاية (التفاؤل)
- انخفاض التوقعات حتى تتلاشى في النهاية (التشاؤم)
- توقعات معتدلة قائمة على الاعتماد الفعلي (الواقعية).
وهذا النمط عبارة عن دالة قوتين على مدى زمني: وهما الترويج والنضج. تخيل بندولاً، حيث الترويج هو القوة الأفقية التي تؤرجح التوقعات لأعلى وأسفل بينما النضج هو قوة الجاذبية التي تجذب التوقعات لتتماشى مع الواقع في النهاية. وعندما ترتفع التوقعات أكثر من اللازم ولا تُلبى بسرعة كافية، يتأرجح البندول للخلف وتنخفض التوقعات. وعندما يكون مستوى النضج منخفضاً يمكن أن تتأرجح التوقعات بعنف، ولكن بارتفاع مستوى النضج تصبح التوقعات أكثر اعتدالاً.
وفي أسواق العملات المشفرة، يمكن أن تحدث دورات الترويج بالتزامن في ثلاث طبقات على الأقل على مدى فترات زمنية مختلفة حتى الوصول للنضج. والطبقة الأولى هي سوق العملات المشفرة الإجمالية (التي تهيمن عليها الآن البتكوين (BTC)) ودورة ترويجها. والطبقة الثانية هي حالات الاستخدام المختلفة للبلوكتشين والعملات المشفرة (مثال: البنية التحتية، والبرمجيات الوسيطة، والتطبيقات اللا مركزية، والعملات المستقرة، وتوكنات الأوراق المالية، والمقتنيات وغير ذلك) داخل الصناعة، وكل منها لها دورة ترويج خاصة. والطبقة الثالثة هي المشروعات الفردية التي تحاول أن تتميز وتتنافس على التمويل، وحصص السوق، والاعتماد وأيضاً كل منها له دورة ترويج خاصة. وكل واحدة من هذه الطبقات (سوق العملات المشفرة الإجمالية، وحالات الاستخدام، والمشروعات) تضيف بندولاً إلى السلسلة، وتكون محاولة قياس أين يقع أي مشروع معين في دورة ترويج معينة أمراً مستحيلاً وسط الفوضى.
ولإضافة المزيد من الالتباس، يمكن أن تكون التوقعات المتعلقة بأي مشروع معين مبالغ في تقديرها أو مقلل من شأنها في نفس الوقت، وذلك بناءً على من توجه له السؤال. وعلى الأرجح يكون لكل من الجمهور العام، ومتداولي العملات المشفرة، ومطوري البلوكتشين، وداعمي المشروع، والمنافسين آراء ومفاهيم مختلفة اختلافاً كبيراً حول أي مشروع واحد والتي يتم تضخيمها وتنقيحها خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وهناك القليل من المعلومات القيمة الموجودة في صخب الفضاء الإلكتروني تطابق بين المروجين وأصحاب الدعاية الزائفة.
ملء فراغ النضج بالتوقعات الكبيرة
وبالرغم من محاولات منصات التداول وجهات تجميع بيانات السوق لإعادة صنع التجربة، إلا أن سوق العملات المشفرة ليست كسوق الأسهم. وكلتاهما قائمتان على المضاربة، لكن أسعار الأسهم قائمة (بعض الشيء على الأقل) على بيانات موضوعية: وهي الإفصاح الإلزامي عن المعلومات؛ وأرباح الشركة، والأصول، والتقييمات؛ وقوانين محددة جيداً وحقوق حددتها المحاكم، والسلطة التشريعية، والهيئات التنظيمية؛ ومدعومة من مستثمرين محنّكين استثماراتهم على المدى البعيد. وتكون أسعار سوق الأسهم مستقرة بشكل عام بسبب السوق المحترف المستنير.
أما أسعار العملات المشفرة تكون أقل وضوحاً بكثير. ولدى مشروعات البلوكتشين الناشئة الجديدة أفكار رائعة على الورق والتي إذا تم تنفيذها يمكن أن تكون مفسدة للنظام بشكل لا يصدق. ولكن في كثير من الأحيان تكون هناك معلومات موضوعية ضئيلة (إن وجدت)، أو منتجات عمل، أو استخدامات هامة منها يستطيع المتداول تقدير قيمة المشروع. ومعظم المشروعات لا توفر أي معلومات إفصاح عن خزينتها، أو دخلها، أو خسائرها، أو نفقاتها. وتتلاعب البوتات والحيتان بأسعار منصات التداول بينما يبقى المستثمرون المؤسسيون الذين قد يتسببون في استقرار السوق على الهامش في مواجهة عدم اليقين التنظيمي. ويتم التشديد على المكافآت العالية المحتملة بينما تُنحى جانباً المخاطر العالية المصاحبة، مما يؤدي إلى فرط الثقة من المشترين بالتجزئة. ودون ركائز قوية في الواقع، لا يوجد حد للتوقعات والأسعار المتضخمة.
وتظل ممارسة الحرص الواجب في مشروع البلوكتشين صعبة بشكل غير معقول. وعادة ما يتطلب إيجاد المعلومات الأساسية عن أي مشروع (استخدام التوكن، ومنحنى العرض والتوزيع، وتقدم التطوير، وخارطة طريق المستقبل، وأوراق اعتماد الفريق، وآلية الإجماع، والشراكات النشطة، وإحصائيات الاستخدام) البحث في كميات كبيرة من المعلومات عبر عدة أوراق بيضاء، ومستكشفين، وتغريدات، ومدونات، وإذاعات بث، ومقاطع فيديو، وبيانات صحفية، وذلك بافتراض أن المعلومات متاحة ودقيقة في المقام الأول. ويتضاعف هذا العبء عندما يحاول المتداولون تقييم أحد المشروعات في مقابل منافسيه، وحتى تحديد المنافسين يمكن أن يكون أمراً صعباً.
وهناك أيضاً الكثير من فقدان الثقة في المشروعات التي أنتجت شيئاً ملموساً. وتمر هذه المشروعات الآن بعناء بناء رؤيتها وجذب المستخدمين، الشيء الذي يتطلب وقتاً طويلاً، وجهداً، وتعاوناً. إذ أنها تخطت مرحلة “ذروة التوقعات المتضخمة”، ولذلك تكون التوقعات في منحدر النزول، أو في أسوأ حالاتها، أو تتجه مرة أخرى لأعلى بشكل معتدل باتجاه شيء أكثر اتساقاً مع ما أنتجته، بناءً على الوقت المطلوب حتى الوصول للنضج. وبالنسبة لمعظم المتداولين، يكون الأمر مملاً كمشاهدة الطلاء حتى يجف: إذ أن الاحتفاظ بعملة مشفرة تابعة لمشروع قائم بعد مرحلة ذروة التوقعات أثناء استمرار الفريق في البناء نحو نضج المنتج يُعد تكلفة الفرصة البديلة بينما تحقق المشروعات الجديدة اللامعة مكاسباً في الأسعار بسبب التوقعات المتضخمة وحدها.
اختراق عقل المتداول أسهل من اختراق محفظته
وفي مواجهة الكثير من المعلومات (مع أنها لا تقدم سوى القليل)، نلجأ إلى الاختصارات العقلية لتوجيه عملية اتخاذ القرار. ويمكن أن يكون ذلك مؤثراً وفعالاً، ولكن العديد من المشروعات ومروجيها يقدمون هذه الاستنباطات للحصول على اهتمام غير مستحق أو لصرف الانتباه عن نقاط ضعفها.
احم عقلك مثلما تحمي مفاتيحك الخاصة
تعرف على عمليات اختراق العقل عندما تراها حتى تكشف حقيقتها. وهذه ليست قائمة شاملة، ولكنها تصف بعض التحيزات الإدراكية الأكثر شيوعاً بين المتداولين:
الترسيخ
القرار الأول يؤثر على جميع القرارات التي تليه. ويمكن أن يؤثر سعر عملة مشفرة معينة في وقت الشراء الأولي أو العرض الأولي على رأينا في السعر الحالي، حتى عندما يكون السعر الأولي موضوع عشوائياً.
تحيز التوافر
نحن نركز على الأسعار المتطرفة مثل الارتفاعات والانخفاضات القياسية لأنها بارزة وسهل البحث عنها. وفي أغلب الأحيان، تعكس نقاط البيانات المزيد عن حالة سوق العملات المشفرة الأكبر، أو ديناميكيات العرض، أو التسويق في ذلك الوقت بدلاً من الأسس الموضوعية للمشروع في الوقت الحالي.
تحيز الندرة
ربما تكون قد سمعت عن رواية قريبة من “واحد فقط من كل عدد معين من الناس حول العالم سيملك عملة واحدة على الإطلاق” عن إحدى العملات المشفرة. وينطوي العرض المحدود على الندرة، والتي من شأنها تنطوي على علو القيمة وتخلق ضرورة الشراء. ولكن الرسم الفريد من نوعه الذي رسمته في وقت سابق، رغم أنه نادر، إلا أنه على الأرجح لا يساوي أي شيء لأي شخص.
التكلفة الغارقة
نحن نتشبث بالأشياء التي استثمرنا فيها بالفعل. “أنت لا تدرك الخسارة حتى تبيع”، ولكن البيع مقابل سعر منخفض الآن أفضل من البيع مقابل سعر أكثر انخفاضاً في المستقبل.
تأثير دانينغ كروغر
بنمو معرفتنا، تصبح الثغرات فيها أكثر وضوحاً. وكلما عرفنا، على الأرجح سنصبح أقل ثقة؛ وكلما قلت معرفتنا، على الأرجح سنصبح أكثر ثقة. وقد يكون أعضاء المجتمع الذين لديهم فهم شامل لأساسيات المشروع أكثر تحفظاً وتفحصاً لتوقعاتهم، بينما غير المطلعين نسبياً يجرون توقعات أكثر جرأة.
تفكير القطيع
عادة ما يكون الصوت الأعلى، أو الأكثر ثقة، أو أول من يتحدث هو المرشد لقرارات المجموعة، ولكن بسبب تأثير دانينغ كروغر، عادة ما تكون هذه الأصوات هي الأقل اطلاعاً، مما يمكن أن يؤدي إلى سوء اتخاذ القرارات.
تحيز الدليل الاجتماعي
نحن نميل إلى التطلع للآخرين لتوجيه سلوكنا الخاص. ويمكن أن توحي الشراكات، ودعم المؤثرين، وجيوش وسائل التواصل الاجتماعي بمصداقية المشروع، ولكن يمكن أن يكون هذا الدعم سطحياً ومدفوعاً بنوايا خفية.
نحن بحاجة إلى سجلات أداء أفضل
كتبت شركة ديلويت Deloitte عن ترويج الابتكارات العام الماضي 2018 وأشارت إلى عدة معايير يجب أخذها في عين الاعتبار عند تقييم أي تكنولوجيا حديثة والنظر إلى ما وراء الترويج إلى احتمالية تبني الابتكار وديمومته.
التعقيد والتوافق
ما مدى صعوبة استخدامه؟ إلى أي مدى يحتاج المستخدمون إلى تغيير عاداتهم القائمة؟ يبدو شعار “كن أنت بنكك الخاص” رائعاً، ولكن إدارة المفاتيح الخاصة وتأمينها، والتنقل بين منصات التداول، وتشغيل جميع البرامج الضرورية يمكن أن يكون أمراً يصعب تعلمه بالنسبة لمعظم المستهلكين والمستخدمين النهائيين.
قابلية الملاحظة وقابلية الانتشار
ما مدى صعوبة شرح الفكرة؟ هل يمكن رؤيتها في الواقع؟ كلما كان منحنى تعلم فهم قيمة الابتكار أعلى، قل احتمال اعتماده.
قابلية التجربة
هل بإمكان الناس اختبار أو تجربة التكنولوجيا قبل استثمار الوقت، أو الجهد، أو المال؟ هل هناك شبكة اختبار وتوثيق للمطورين الجدد ليجربوا بها؟ إن إعطاء الفرصة للمستخدمين “للتجربة قبل الشراء” يمكن أن يساعد في تقليل المخاطر المُتصورة، وجذب الاهتمام، وبيان القيمة.
الميزة النسبية
ما هي فوائد التبني مقارنة بتكلفة وجهد تغيير الوضع الراهن؟ إذا كانت مزايا النظام الجديد هامشية وحسب والطريقة الحالية للقيام بالأشياء “جيدة بما يكفي”، فربما يكون دافع التغيير منخفضاً.
المخاطر المُتصورة
ما هي السلبيات المحتملة للتبني؟ قد يكون هناك مخاطر مادية، واجتماعية، ومخاطر التقادم، ومخاطر في الأداء تحجب الفوائد المحتملة بسبب الرغبة في تجنب الخسارة.
التخصيص والتهيئة
ما مدى مرونة التكنولوجيا لتلبية احتياجات المستخدمين ورغباتهم؟ كون المشروع يقدم حلاً لا يعني أنه يناسب جميع المشكلات. والانحصار في نموذج جامد يمكن أن يكبح المستخدمين الذين يرغبون في “التفكير خارج الصندوق” وتطبيق الابتكار بطرق جديدة وفريدة من نوعها.
الثقافات الفرعية التي تتبنى الابتكار
ما هو حجم مجموعة المتبنين؟ ما مدى تأثيرهم في الصناعة، وفي الجمهور ككل؟ هل يزداد حجم التبني؟ قد تكون جيوش وسائل التواصل الاجتماعي فعالة بالنسبة للوعي السوقي ولكن قد يكون لها تأثير ضئيل على التبني فيما بعد التداول.
التركيز على الظواهر الكامنة في مقابل الأعراض الجانبية
إن البتكوين هي المثال النموذجي على البلوكتشين والعملات المشفرة، ولكن تكنولوجيا البلوكتشين شيء أوسع نطاقاً وأكبر بكثير من البتكوين وحدها. هل الرواج الحالي حول الأموال اللامركزية يقتصر على حالات استخدامها، وهل يرجع إلى نجاح شبكة الإيثريوم (ETH)، أم هل المعجزة الحقيقية تكمن في النطاق الواسع من المعاملات الآلية غير القائمة على الثقة التي تتيحها العقود الذكية؟
وعلى مدى زمني طويل بما يكفي، ستتلاشى التكنولوجيا التي تفشل في كسب التبني الواقعي. ولا يهم كم يبدو المشروع رائجاً وواعداً في البداية، إن لم يشتريه الناس ويستخدمونه بعد المجموعة المتخصصة الحالية من المتداولين، والبوتات، والحيتان التي تمثل أغلب السوق، فسيتراجع معظمهم في النهاية عندما يرون أن المشروع الجديد لا يجدي نفعاً. والمشروعات ذات الأنظمة الإيكولوجية المزدهرة التي تجذب مستخدمين جدد ستكتسب قيمة جديدة، مما سيضيف الدافع لإبقاء محركها الاقتصادي في طور التشغيل.
لن تكون البلوكتشين سائدة حتى تصبح مملة. ويجب أن تكون خفية ومنتشرة للغاية حتى لا يعلم الغالبية أنهم يستخدمونها أو كيفية عملها ولن يحتاجوا لذلك.
ويمكننا الاستمرار في إضاعة المال على مشروعات عالية المخاطر ليست سوى “ورقة بيضاء وحلم” على أمل اللحاق بالرواج قبل أن يصل ذروته (والبيع قبل الانخفاض). ولكن المشروعات المخضرمة ذات التطور النشط وعلامات التبني رغم التوقعات المنخفضة قد تكون أقل مخاطرة على المدى البعيد وتستحق بحثاً أعمق. ويتطلب سوق العملات المشفرة الصحي مشروعات مرنة ومتنامية، والآن هو الوقت المناسب لبدء أخذ هذه المشروعات على محمل الجد.
مواضيع تهمك
هناك مواضيع أخري متعلقة