يعد الاقتصادي النمساوي فريدريك هايك، المولود في فيينا في عام 1899، أسطورة في الأوساط المؤمنة بالفلسفة التطوعية والليبرتارية، وفي دوائر العملات المشفرة. وقد ظهر تسجيل فيديو للفيلسوف النمساوي والمنظر الاجتماعي يعود إلى عام 1984، ويجري تداوله حالياً في أوساط العملات المشفرة على تويتر. ففي هذا التسجيل المذهل، والذي يحوي جزء آخر منه على أحد أشهر اقتباساته، يتكلم هايك عن أن الطريقة الوحيدة للرجوع إلى الأموال الصحيحة هو بانتزاعها من أيدي الحكومة. ويشرح هايك بعد ذلك تصوره لنظام مالي لا يتطلب إذناً، أو سلطة مركزية.
بصيرة هايك
تحدث فريدريك هايك في عام 1984 قائلاً: “لا أتصور أننا سنستطيع الحصول على نظام مالي سليم مجدداً بدون انتزاعه من أيدي الحكومة، لا يمكننا فعل ذلك باستخدام العنف، جل ما يمكننا فعله هو ابتكار طريقة ماكرة وملتفة لا يستطيعون إيقافها”. ولا يصعب إعادة فهم تلك الكلمات، بعد 35 عاماً، في سياق ظهور البتكوين.
لم يكن هايك الوحيد الذي توقع ظاهرة البتكوين منذ الثمانينات. فقد توقعها بيان العملات المشفرة الأناركي في عام 1988، كما توقع العالم الاقتصادي الأميركي ميلتون فريدمان ظهورها في عام 1999، إذ قال: “الشيء الوحيد المفقود، والذي سيتم تطويره عما قريب. هو نظام نقدي إلكتروني. طريقة يستطيع بها الأشخاص على الإنترنت نقل الأموال من النقطة أ إلى النقطة ب بدون أن يعرفا بعضهم البعض. بنفس الطريقة التي أعطيك بها ورقة من فئة 20 دولار بدون وجود سجل خاص بتلك الورقة. ويمكنك استلام تلك الورقة النقدية بدون معرفة هويتي. سيتم تطوير تلك الخدمة على الإنترنت”.
الموضوع المشترك بين هذه التنبؤات المذهلة هو، بالطبع، الإنترنت. فقد ظن الكثيرون في أوائل ومنتصف التسعينات أن الحديث عن “العمل أو التسوق عبر الإنترنت” ضرباً من الجنون، فضلاً عن محاولة تخيل عملة مستقبلية غير قائمة على الإذن وغير خاضعة للتنظيم الحكومي. ومع ذلك، ظهرت البتكوين. لقد كانوا على حق
الصدام النمساوي الكينيزي
كان هايك مفكراً محورياً في المدرسة النمساوية للاقتصاد. ويعتبر النظام النمساوي نموذجاً كلاسيكياً يُنظر فيه إلى التدخل الحكومي في السوق الحرة باعتباره غير مرغوب فيه وغير منطقي. وتتمثل وجهة النظر الأخرى في النموذج الاقتصادي المسيطر حالياً وهو النظام الكينيزي، والذي يعتبر التدخل الحكومي ضرورياً لضبط الأسواق عن طريق التخطيط المركزي وفرض تطبيق سياسة نقدية معينة.
وبينما تتفق كل دول العالم تقريباً على أن نسب الفائدة يجب أن تحدد عن طريق الحكومة، وهو ما يمكن النظر إليه باعتباره تحكماً، فإن مؤيدي المدرسة النمساوية ينظرون إلى السوق بوصفها هيئة طبيعية لها قواعدها الطبيعية الخاصة. وتعد دورات الانتعاش والكساد في عالم الأعمال، وانهيارات البورصة نتيجة طبيعية لفقاعات الائتمان الممأسسة.
مشكلة المعرفة
ومن أهم إسهامات هايك للمدرسة النمساوية هي المبدأ المعروف بمشكلة المعرفة، أو مشكلة المعرفة المحلية، وهي تنويع وامتداد لمشكة الحساب الاقتصادي التي صاغها زميله مفكر المدرسة النمساوية لودفيغ فون ميزس. وتختص مشكلة المعرفة المحلية ببيان الخلل الجوهري في مسألة التخطيط المركزي.
ففي كتابه الصادر عام 1945 “استعمال المعرفة”، كتب هايك: “..المعرفة الخاصة بظروف معينة مرتبطة بالوقت والمكان. ومن هذه الناحية، فإن كل فرد، عملياً، يمتاز عن كل فرد آخر نظراً لامتلاكه معلومات فريدة يمكن استعمالها بشكل مفيد، إلا أن الشرط الضروري لكي يكون استخدام تلك المعرفة مفيداً هو أن تترك لهذا الفرد سلطة اتخاذ القرار أو يتم اتخاذه بتعاونٍ نشط منه”.
من هذا المنطلق، فإن التخطيط الاقتصادي المركزي سيفشل لا محالة. فبينما تعطي البيانات المتراكمة، والإحصائيات، صورة مستقرة نسبياً، فإن هناك تأثيرات الفاعلين في السوق وتفضيلاتهم الخاصة، وليس التخطيط المركزي. يعني ذلك أن الاستقرار النسبي يتحقق كعرض جانبي للإشارات الفردية المستقلة. ويحدث ذلك بالرغم من، وليس بسبب، التخطيط المركزي.
العقد الفردية في السوق الحرة للبلوكتشين
المعرفة الفريدة، المتنوعة التي يملكها كل فاعل منفرد في السوق (يعني ذلك: ‘لا توجد مسامير في المصنع، يجب علي أن أبدلها’. أو: ‘يمكنني اختراع آلة رائعة إن استطعت الوصول إلى موارد معينة’) لا يمكن معالجتها أو فهمها أو التعرف عليها عن طريق نظام صناعي منظم مركزياً، بحسب مفكر المدرسة النمساوية.
لا يمكن التكهن بالعرض والطلب بدقة. مما يؤدي لحدوث دورات الانتعاش والكساد الاقتصاديين، ويتم اعتبار الوضع مستقر نسبياً نتيجة لخطأ قراءة البيانات بأثر رجعي. بشكل واقعي تماماً، فإن النظرية الاقتصادية الأسترالية تشجع وجود شبكات من العقد غير مركزية ولا تقوم على الحاجة للإذن (فاعلين اقتصاديين مستقلين)، مثل البتكوين والشبكة غير المركزية للفاعلين على البلوكتشين.
التشخيص غير الديستوبي منذ عام 1984
برغم سيطرة السياسة الكينيزية، فقد اعترض الكثيرون على التدخل الحكومي الذي يأخذ عادةً شكل تصحيحات لحالة السوق تتسبب في اضطرابه. اعتبر هايك أن دورات الاقتصاد دليل على تطور التعديلات الطبيعية. فمثلما يدل الصداع على نقص السوائل أو التوتر لدى الإنسان، فإن نقص الطلب وانخفاض الإنفاق يدلان على تردد فاعلي السوق، ويدعوان إلى إعادة النظر وإعادة ضبط السوق بناءاً على مؤشرات سوقية أكثر جدة.
وكانت آخر الأمثلة على ذلك التدخل هو حزم الإنقاذ الضخمة التي ذهبت للبنوك الكبيرة لمنعها من الانهيار، وبذلك، فإن الدواء المر الموصوف من قبل المدرسة النمساوية لم يسمح لمفعوله بالسريان. وبدلاً من ذلك، فإن الاقتصاديين الكينزيين خلقوا مزيداً من الائتمان (والديون التي سيضطر دافعو الضرائب إلى تسديدها) من أجل إنقاذ الفاعلين السيئين والمؤسسات التي كانت ستفشل لولا تدخلهم. تتعارض توقعات هايك وميزس وفريدمان، وزملائهم من المدرسة النمساوية مع مفكري الاقتصاد الكينيزي الذين حازوا على جوائز مرموقة.
التوقعات الكينيزية
توقع ميزس الانهيار المشهود حالياً للأنظمة الاشتراكية الكبرى التي تجاهلت عن عمد مشكلة الحساب الاقتصادي في الزمن الحديث. وتوقع كل من هايك وفريدمان، من بين توقعات أخرى، ظهور العملات المشفرة.
وفيما يتعلق بجون ماينارد كينيز، رائد المدرسة الكينيزية في الاقتصاد، فقد توقع في عام 1930 أن تنخفض عدد ساعات العمل إلى 15 ساعة أسبوعياً، لأن الأتمتة وانتشار الثراء سيجعلان العمل غير ضروري، إذ قال: “وفيما يتجاوز ذلك، فسنسعى لأن نجعل ما تبقى من العمل تشاركياً بقدر الإمكان. نوبات عمل مدتها ثلاث ساعات يومياً أو 15 ساعة أسبوعياً قد تسكن حاجتنا الداخلية للعمل إلى حد بعيد؛ إذ تكفي ثلاث ساعات من العمل اليومي ليشبعوا احتياجات آدم الذي بداخلنا!”.
ويقصد كينيز آدم المذكور في الكتب السماوية في الفقرة السابقة، والذي حُكم عليه بالعمل في الأرض لكي يشبع احتياجاته مما جعله يشعر بالحاجة الغريزية للعمل. ويواصل كينيز قائلاً: “حب المال باعتباره ملكية.. سيراه الناس على حقيقته في النهاية، باعتباره مرض مقزز، أحد الأنشطة نصف الإجرامية، نصف المرضية والتي يعهد بها المرء بشيء من الاحتقار إلى المختصين في الأمراض النفسية”.
وبعد 100 عام مما كتبه كينيز، لا يسع المرء إلا التساؤل عن السبب وراء عدم تحقق الخير الناتج عن الإيثار الذي يمارسه المخططون المركزيون المؤمنين بالكينزية. وجادل البعض أن ذلك الخير قد عم بالفعل، بالنظر لأن المواطن المتوسط أصبح بوسعه أن يصبح ثرياً وأن يعمل لمدة 15 ساعة أسبوعياً. وبغض النظر عن أي من التفسيرين قد يميل إليه القارئ، فإن حقيقة واحدة تبقى ثابتة: البتكوين موجودة، وستبقى طويلاً.
مواضيع تهمك
هناك مواضيع أخري متعلقة