“أنا مهتم بالبلوكتشين وليس البتكوين (BTC)”.
فلنعترف أنَّنا سمعنا هذا مئات، إن لم يكن آلاف، المرات (بل وربما جاء على لساننا يوماً). بالطبع، الناس يدركون أنَّ ما نقوله له علاقة بـ”التقنية الأساسية وراء البتكوين”؛ وهذا يجعلنا نبدو أذكياء بما يكفي.
ما إن أصبح معروفاً، أو على الأقل مُفترضاً، أنَّ تطبيق التشفير على النظام المالي أمر ممكن، وذلك عبر طرق شبيهة بكيفية استخدامه في البتكوين، بادر الجميع بالتأكد أنَّهم قد توقفوا فوراً عن التفوّه بالتصريح السابق. ولا يزال هذا الامتناع، الذي بدأه البتكوين ذاته، سارياً بقوة حتى يومنا هذا.
هل يبدو هذا منطقياً؟ بكل تأكيد! لكنَّ الأمر المثير للاهتمام هو أنَّ كلمة “بلوكتشين” ليس لها وجود فعلي في الورقة البيضاء الأصلية للبتكوين التي نُشرت عام 2008؛ إذ تستخدم الورقة البيضاء بدلاً منها الكلمتين “بلوك” (أي “كتل”) و”تشين” (أي “سلسلة”) كلٍ على حدة عدة مرات.
تصف الورقة البيضاء “البلوك” (أو “الكتلة”) بأنَّه وسيلة لإجراء حزمة من معاملات البتكوين. بعد ذلك، ترتبط تلك الكتل معاً مكونةً “سلسلة” من “الكتل” (أو “بلوكتشين”).
لقطة من الورقة البيضاء للبتكوين (تم تظليل جزء منها).
إذن، من هو مبتكر هذا المصطلح شديد الشيوع في القطاع؟
مصطلح “بلوكتشين” المُضلل
ليست أصول المصطلح ثورية إلى هذا الحد، على ما يبدو.
وفقاً لتصريحات أدلى بها مطوّر البتكوين السابق مايك هيرن لموقع كوين ديسك CoinDesk: “لم يكن مصطلح بلوكتشين مُستخدماً قط في الأيام الأولى”. ومع ذلك، فإنَّ هيرن أقرّ أيضاً بأنَّ ساتوشي ناكاموتو قد أشار كثيراً إلى “سلسلة إثبات العمل” (Proof-Of-Work Chain) في مناقشات أجراها على منتديات.
يبدو أنَّ أول إشارة إلى المصطلح قد ظهرت على منتدى بتكوين توك Bitcoin Talk، وهو منتدى مُخصص للبتكوين أنشأه ساتوشي في يوليو/ تموز 2010، أي بعد مرور أكثر من عام على إصدار البتكوين.
لم تكن للتعليقات في ذلك الوقت علاقة بمدى ابتكارية التقنية، بل كانت عبارة عن شكاوى من طول المدة المُستغرقة لتحميل “بلوكتشين” البتكوين (أي السجل الكامل لجميع معاملات البتكوين).
ففي حين أنَّ تحميل البلوكتشين في يومنا هذا يتم بسرعة شديدة، كان “تحميل البلوكتشين الأولية بطيئاً للغاية”، على حد قول أحد مستخدمي منتدى بتكوين توك.
بعبارة أخرى، لم يكن مصطلح بلوكتشين في البداية يتمتع بالجاذبية الشديدة التي يتمتع بها اليوم إطلاقاً.
الهوس بالبلوكتشين
من الصعب تحديد متى بدأ هذا المصطلح يُستخدم على نطاق واسع بالضبط.
مع ذلك، يبدو أنَّ الاهتمام بالمصطلح ظهر نتيجة تردد المنظمات المهنية والأفراد في الانحياز إلى عملة البتكوين ذاتها بسبب سمعتها السيئة نظراً لارتباط استخدامها بالمخدرات والاقتصاديات غير النظامية.
في هذا الصدد، قال هيرن: “أعتقد أنَّه [بدأ يكتسب شعبية] تقريباً في الوقت الذي بدأ فيه الناس يتجهون إلى [العاصمة الأميركية] واشنطن لمحاولة تحسين سمعة عملة البتكوين بفصلها عن الخوارزميات الأساسية المُستخدمة بها”.
بالنسبة للعديدين، كان من الممكن فصل عملة البتكوين عن البتكوين باعتباره بروتوكول للبلوكتشين. وهكذا، نشأ قطاع جديد كلياً لما عُرف باسم “سلاسل البلوكتشين الخاصة” غير المرتبطة بأي عملة. وبالفعل، أظهرت بيانات موقع مؤشرات غوغل Google Trends ارتفاعاً في معدل استخدام المصطلح في تلك الفترة تقريباً من عام 2015.
رسم بياني من موقع مؤشرات غوغل.
قال مطوّر العملات المشفرة ذو الخبرة الطويلة في المجال، غريغ سليباك، شارحاً: “في البداية، كان الناس يستعملون مصطلح “بلوك تشين” (“سلسلة الكتل”). ولكن بفضل حملة دعائية ناجعة، رُزقنا بمصطلح “بلوكتشين” المكوّن من كلمة واحدة؛ والفضل في ذلك يرجع على الأرجح إلى الجهود التي بذلها المجتمع بأسره، والتي تركزت حول منتديات بتكوين توك وبالقرب منها”.
لم يتحول المصطلح إلى كلمة واحدة فحسب، بل راج استخدامه للتعبير عن أي بلوكتشين غير بلوكتشين البتكوين بأنَّها “بلوكتشين” أيضاً. وظل البتكوين محتفظاً بمصطلح “البلوكتشين”؛ مما أعطى مصداقية إلى حقيقة أنَّه كان صاحب البلوكتشين الأولى.
مع ذلك، فقد صارت البلوكتشين منفصلة تماماً عن البتكوين، لدرجة أنَّ كلا المصطلحين شهدا ارتفاعاً متماثلاً في الاستخدام تزامن مع بدء تراجع أسعار العملات المشفّرة. مثال على ذلك: شهد مصطلح “بلوكتشين” ارتفاعاً هائلاً في عمليات البحث على موقع غوغل Google في نهاية عام 2017.
رسم بياني من موقع مؤشرات غوغل.
أول سلسلة بلوكتشين في العالم
بغض النظر، لا يزال من غير الواضح بالضبط من أين نشأت الفكرة ذاتها: البعض يرى أنَّها كانت موجودة قبل ظهور البتكوين حتى؛ غير أنَّ المصطلح لم يكن مستخدماً لوصف تلك السلاسل آنذاك.
على سبيل المثال: يزعم المُشفّر ستيوارت هابر أنَّه مبتكر أول بلوكتشين على الإطلاق، وتُعرف باسم “شوريتي” Surety. يُذكر أنَّ هابر كان قد نشر عدة أوراق بيضاء عن الطوابع الزمنية Timestamping تمت الإشارة إليها في الورقة البيضاء للبتكوين.
بحسب هابر، لابد من أنَّ هناك سبب جعل ساتوشي يستشهد بعمله، بل وثلاث مرات من أصل تسعة استشهادات في المجمل. من الجدير بالذكر أنَّ بلوكتشين شوريتي قد انطلقت في عام 1995 لتسجيل الطوابع الزمنية، ومازالت قيد التشغيل حتى يومنا هذا.
مع ذلك، فقد اعترف هابر بأنَّ نسخته من البلوكتشين لا تتمتع بجميع مميزات البتكوين نظراً إلى أنّها مركزية، أي خاضعة لإدارة شركة واحدة فقط.
يسلط هذا الضوء على الصعوبات التي تواجه المرء عند الحديث عن البلوكتشين؛ فليس هناك بالضرورة تعريفاً واحداً فقط مُتفقاً عليه لهذه التقنية.
في الواقع، يعرض قاموس ميريام ويبستر للغة الإنجليزية تعريفاً أقدم بكثير لمصطلح “بلوكتشين”، هو كالآتي: “عبارة عن سلسلة تتكون روابطها المتبادلة من كتل عريضة متصلة ببعضها بروابط جانبية رفيعة مرتكزة على نهايات الكتل. تُستخدم لنقل القوة في العجلات المُسننة، كما في الدراجات الهوائية”.
بينما يُعرّفها موقع غوغل كالآتي: “هو نظام للاحتفاظ بسجلات للمعاملات التي تم إجرائها سواءً بعملة البتكوين أو بأي عملة مشفّرة أخرى باستخدام عدة أجهزة حاسوب متصلة ببعضها بشبكة قائمة على نظام النظير إلى النظير Peer-to-Peer. نشأ المصطلح من كلمتيّ “بلوك” Block، التي تعني “كتل” باللغة الإنجليزية، و”تشين” Chain، التي تعني “سلسلة” باللغة الإنجليزية. ويعود تاريخ المصطلح إلى مطلع القرن الحادي والعشرين”.
ولكن حتى هذا التعريف ينطوي على مشكلات، من وجهة نظر الخبراء المُحنكين في المجال: إذ إنَّ العديد من سلاسل البلوكتشين الخاصة التي نشأت في العصر الحديث لا تُسجّل معاملاتها علناً.
أو كما صاغت شبكة ذا فيرج The Verge الأمر في وقت سابق من العام الحالي، 2019: “لقد بلغ المصطلح درجةً من الانتشار جعلته يفقد معناه تدريجياً”.
العُميان
لشرح هذا التعارض بين تعريفات المصطلح المختلفة، لجأ هابر إلى الإشارة إلى حكاية رمزية هندية.
تحكي الحكاية الرمزية قصة مجموعة من العميان صادفوا فيلاً في طريقهم، و بدأوا يتحسسونه لمعرفة ما الذي يواجهونه بالضبط.
لكن وصفهم للفيل جاء مختلفاً تبعاً للجزء الذي يتحسسونه. على سبيل المثال: وصف أحد العميان خرطوم الفيل بأنَّه حية، بينما وصف آخر رجل الفيل بأنَّها جذع شجرة.
بالمثل، يعتمد تعريف البلوكتشين على استخدام الناس لها، وفقاً لـ هابر.
قال هابر لموقع كوين ديسك: “بعض التعريفات سخيفة للغاية، وتبين أنَّ الناس لا يفهمون ما يفعلونه. ولكن هناك أيضاً مجموعة من التعريفات الدقيقة لأجزاء مختلفة من مجموعة الأعمال العريضة”.
وعليه، فإنَّه يزعم أنَّه لا يوجد معنى واحد فقط لمصطلح البلوكتشين.
صحيح أنَّ خبراء البتكوين ومُعدّنيه يؤمنون بأنَّ مصطلح “بلوكتشين” يدل على بلوكتشين البتكوين الواحدة والوحيدة، إلا أنَّ التعريفات، كالكلمات، تتطور وتتغير باستمرار طوال الوقت.
مواضيع تهمك
هناك مواضيع أخري متعلقة